
بقلم زينبه بن حمو
أغلقت الهاتف وبدأت استسلم للنوم أخيرا في ساعة متأخرة من الليل، أو بالأصح، في الساعات الأولى من الصباح، حين سمعت صوتا خافتا يهمس من الغرفة المجاورة حيث تنام ابنة خالي. كان الصوت شبيها بصوت مذياع، يكسر صمت القبور الذي يعم هذا الحي في مثل هذه الساعة من الليل، أو الصباح.
كان ذلك الصوت كفيلا باعادتي سنوات، أجيالا، وعقودا إلى الوراء. ارتعدت اوصالي ونبض خافقي بشدة من فرط الحنين إلى تلك السنين. إلى صوت مذياع جدي، رحمة الله عليه، وصوت المذيع وهو يعلن :
هنا الرباط إذاعة المملكة المغربية.
تذكرت رائحة الحناء و النيلة، والبخور، وأمساك العروس المصنوع يدويا من مواد طبيعية وخلاصات بعض العطور. تذكرت رائحة خبز الصباح المنسم بطعم الفحم.
تذكرت صياح الديك النشيط، ونهيق الحمار المزعج. رائحة خبز البادية، و عبق ترابها، ووجوه أهلها. تذكرت رائحة قهوة الصباح حين تفور مع حليب طبيعي تم حلبه في الحين، تذكرت طعم خضراوات البادية، وكسكس البادية ولبن البادية، فواكه البادية الصيفية.
تذكرت ابتسامة والدي، رحمة الله عليه، وضحكاته، وبشاشته، وروحه الإنسانية الكبيرة. تذكرت جلساته رفقة أصدقائه وأقاربه لساعات حول طبلة شاي، وأحاديثهم ونقاشاتهم في التاريخ، والجغرافيا، والأنساب، والعلاقات الخارجية، والداخلية، في العقائد والعبادات وعلم الحديث.. وصلواتهم الجماعية.
تذكرت وجه أمي، أطال الله عمرها، الملائكي، المنير في كل حال. وحصرها على الإهتمام بكل شيء. تذكرت قوة النساء هناك، وأحاديثهن بلا خوف ولا وجل. تذكرت جرأة الفتيات في الحب و إقبالهن على الحياة بنهم. تذكرت أعراس البادية التي تستمر إلى ساعات الصباح الأولى، وأحيانا إلى ساعة شروق شمس يوم جديد.
تذكرت سهراتنا الليلية، و نومنا فوق الأسطح في تلك الفترة من صيف بادية إقليم طاطا، حيث تتجاوز حرارة الجو قدرتنا على الاحتمال، تذكرت وجه السماء الذي كنت أتأمله يوميا وأنا أبحث عن برج الجدي، وبرج الثور وانتظر مرور مذنب، أو كوكب رحال.. انتظرت طويلا وراقبت، دون أن أكتشفها أو أدرك كيف يمكن الحسم في وجود شكل ثور أو بقرة في السماء.
تذكرت..
وأدركت أن ما أعيشه الآن ليس سوى كذبه، بلا طعم أو لون أو رائحة، أدركت أن المدينة ليست سوى شاشة عرض سينمائية، أو خشبة مسرح كبير يلبس الجميع بها ملابس تليق بأدوارهم، ويضعون أقنعة تناسب شخصياتهم.
ليست سوى فضاءات للإدعاء ولا أثر فيها لأرواحنا أو حقيقتنا.
أدركت أني اشتقت إلى تلك الفتاة البريئة ذات العيون البريئة الواسعة والشخصية الهادئة المسكونة بالسؤال، اشتقت إلى تلك التي هي “انا”، لكنها ليست انا. أدركت أني فقدت طعم الحياة حين صرت مجبرة على لجم لساني وقلمي، حين أصبحت مظطرة لمراقبة حركاتي وسكناتي وعد أنفاسي.
أدركت أني لا أريد هذه الحياة، حيث كلنا مجبر على الحرص والتوجس من كل شيء.
أريد أن أعود إلى حياتي التي تشبهني، أريد أن أعود طفلة صغيرة وأرتمي بحضن والدي، رحمة الله عليه، حتى أستعيد قوتي وجرأتي وحريتي..
استمر صوت -المذياع- الهاتف ينبعث من الغرفة المجاورة وانا أتقلب على جمر الحنين ونار الأشواق لمن غادر…