المتواطئون

13 مايو 2020
المتواطئون
المتواطئون

محمد سالم الطالبي


طرح الاستاذ سليمان النجاجي مشكورا ورقة وصفها بالمتواضعة، حسب تعبيره، متسائلا ما اذا كان هناك وجود لنخبة سياسية . لذا ارتأيت المشاركة بدوري بهذه القراءة لورقته، التي اجدها قيمة، و لباقي الاوراق السياسية المحترقة و عديمة القيمة، و التي يشارك اصحابها في السياسة بطريقتهم الخاصة متحفظين بمسافة الأمان من جميع الأطراف في محاولة للظهور بمظهر الحياد، في وانتظار إعلان النتاىج لمعانقة الفاىز و نسج علاقة “انسانية” معه.

والواقع انه ليس هناك من خطر في نظري أخطر على السياسة ومستقبلها من السياسيين أنفسهم، بمن فيهم هؤلاء الذين يمارسون السياسة من وراء حجاب، و ذلك من خلال محاولاتهم في التاثير على مسار اللعبة باتجاه يخدم مصالحهم، عبر تمهيد الطريق لحزب الفساد الواحد، الذي يجد نفسه، بفضل مشاركة المتواطئين، يتحرك بدون منافس يزعجه على الاقل، او يقض مضاجعه على الأكثر.

حفنة من هؤلاء وجدوا في الفيسبوك مقرا دائما لا نشطتهم السياسية، حيث يتسلون بتدوينات الغرض منها ثني أصحاب النيات الحسنة و الكفاءات الحقيقية عن الالتحاق بخندق المقاومة لمواجهة التهديد الذي يشكله من جهة الفاشلون في تدبير الشأن العام وتدميره، و من جهة ثانية الأميون الذين يضمنون لأنفسهم مقعدا دائما داخل المجالس المنتخبة بدعم واضح من الاحزاب نفسها التي تمنحهم التزكية، في تغليب للعلاقات والمصالح الشخصية على المصلحة العليا للبلد ، و مع ذلك فهي لا تجد حرجا في التباكي بعد فوات الأوان، على مصير السياسة و ما لحق بها من تمييع، رغم كونها المساهم الأول في انتاج الشروط الذاتية و الموضوعية لخراب الواقع وتفاقم ازماته.

والواقع ان هناك نوعا من التواطؤ غير المعلن عنه يتم بشكل واضح بين من يتستر خلف شعارات بائدة لها علاقة بالنظام و المخزن وهلم جرا، فيما هو في الحقيقة يطيل امد الازمة، و يعقد فرص حل كثير من المشاكل اليومية التي لا تحتاج من اجل القضاء عليها دستور ديمقراطي ولا هم يحزنون، بقدر ما تحتاج “تراجليت” فحسب، ومن يدعم نهارا جهارا قوى ميتة مستعدة للركوب على أي شيء في سبيل استعادة الحياة، مستفيدة بدورها من خطاب يتورط ويتواطأ في اخلاء الساحة السياسية من نخبة حقيقية ذات مصداقية، وهو ما من شانه ان يعبد الطريق الأمن لمحور الشر باتجاه عودته إلى السلطة واستىناف نشاطه التخريبي.

ولاتني خبرت شيئا ما نفسية الكثير من هؤلاء “المثقفين”، الذين يدعون مواجهة النظام بالشفوي، والذين يحرصون على حياد ايجابي لصالحم ، فمن باب الحقيقة اكرر على مسامعكم ان اغلبهم يمارس قولا و فعلا حملة في اوانها لمرشحين من المفروض ان تتكتل كل القوى، التي تعتبر نفسها حية، و تبادر الى النزول من برج التنظير العاجي لمواجهتهم في الميدان، و توجيه ما يكفي ويزيد من الضربات المؤلمة، كي لا يتجرؤوا من جديد على استباحة المؤسسات المنتخبة. فكيف يعقل ياترى ان من يدعي رفضه المشاركة في الانتخابات من منظور اديولوحي محض، يسمح لنفسه بعقد علاقات طيبة جدا مع مشاركين في اللعبة الانتخابية ، خصوصا بعد فوزهم، و يسهر على توسيع مجال نفودهم محليا متذرعا بكونها علاقات انسانية لا غير. لهذا فالذين يدعون في الغالب الى مقاطعة الشأن السياسي والانتخابي من أصحاب النيات الحسنة يسقطون في فخ التلاعب بالعقول الذي تمارسه هذه الحفنة من المتواطئين على مصالح المواطن العليا، و مستقبله في التغيير.

وليس المجال هنا يسمح بالحديث عن جدوى المشاركة الانتخابية من عدمها، في غياب شروط دستورية او قانونية يرونها ضرورية، فالأمر يتجاوز النظرة السطحية و الاختزالية لدعاة المقاطعة ، لكون قضية التغيير مسؤولية مشتركة و منهجا تجريبيا لا يمكن أن يفرز نتائج إيجابية دون مراكمة للأخطاء في مختبر الممارسة، بصرف النظر عن مجال الصلاحيات التي يحددها الدستور و القانون.

واذا كان هناك من وجد في غياب صلاحيات واسعة للمؤسسات المنتخبة، مبررا بقائه في الهامش، متفرجا على اهوال وأحوال البلاد والعباد، فذلك شأنه الذي يعنيه، ولا ينبغي أن يعنينا نحن في شيء، مادام ان المصلحة العامة تقتضي دفع المفسدة، وهذا اضعف الايمان، و تفويت الفرصة على من يجدون في غياب النخبة عن المشاركة مبرر وجودهم و حضورهم غير المرحب به، مؤجلين بذلك فرص إنقاذ ما يمكن انقاذه.

وبمناسبة الحديث عن مسألة الصلاحيات فإنه من الضروري القول بأن الواقع أكد بما لا يدع مجال للشك ان الكثير من الكوارث محليا ووطنيا، حدثت بفعل منتخبين استقووا على المواطن بصلاحيات خولها لهم القانون، ولأنني قادم من تجربة شهدت على ما أقول، فإنني لا اخفيكم أنني شعرت غير ما مرة بالرضا والارتياح لكون بعض الأشخاص كانوا بموجب القانون مجردين من صلاحيات أوسع، و محرومين بالتالي من اتخاذ قرارات مصيرية، ولو حدث انهم كانوا في موقع أقوى في فترة انتخابهم، لكان من الصعب على المجلدات جرد مخلفاتهم الكارثية في تدمير الشأن العام. والواقع ان جرائم التسيير وقعت بالفعل، رغم ضيق مجال الصلاحيات، ولكم ان تتخيلوا مالذي كان يمكن أن يحدث في ضوء أخضر مشتعل على طول مشوار التسيير.

لذلك ففعل المشاركة بالنسبة لي يعكس قمة الإخلاص و الحب الذي يكنه الإنسان لبلده، لأنه يضحي بوقته وجهده و أحيانا حتى مستقبله، من أجل غرس فسيلة الإصلاح و اجتثاث الاعشاب الضارة من حقل الممارسة.

لم يتحدث النص الإلهي عن لون سياسي و لا حتى ديني كشرط للإصلاح، بقدر ما كانت دعوته تبعيضية تختص بطائفة او جماعة توحدها قيم انسانية مشتركة، و تبادر الى العمل في وجود اكراهات الواقع مهما كانت صعوباتها، حيث قال تعالى :” ولتكن منكم أمة يدعون الي الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”.

فكل شخص بغض النظر عن انتمائه السياسي او الأيديولوجي يمكن أن يجد ذاته في هذا الخطاب الرباني غير العنصري، مادام انه حظي بشرف الانتماء لجماعة تبقي على الأمل في الإصلاح مهما كانت الظروف.

اما الاستكانة لدعاة الشفوي و المتواطئين في الخفاء مع مشاريع التخريب و التدمير، التي ضيعت فرصا تاريخية على البناء والتنمية، فليست في الحقيقة سوى انخراط في تقوية مناعة الفيروس الانتخابي الذي يشكل التهديد الفعلي لفرص الإصلاح و لقيم التعايش المشتركة، و يفرض حجرا غير صحي على المبادرة الصادقة في زمن الفيروسات

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة