
لا يمكن لأي عاقل أن يرفض التواصل، فما بالك إن كان تواصلا منظما مبنيا على تعاقد هدفه توخي المصلحة العامة. مناسبة هذا الكلام استمرار بعض المنتخبين على إنشاء ما يسمونه “مكتب التواصل” حيث يعمدون على استقبال ما يسمونه “ملفات المواطنين”.
وإذا استطلعنا تلك الملفات الشاغلة للمواطنين ويلتمسون حلها من البرلماني نجد أن غالبها يرمي قضاء حوائج شخصية أو أغراض إدارية لا سبيل لقضائها إلا بالوساطة. ومن هنا ندرك دهاء هؤلاء الذين ابتكروا هذا الأسلوب في التواصل الهادف إلى توطيد الصلة بأصوات واستقدام أصوات جديدة فالغاية الإنتخابية تختفي وراء التواصل وحتى يكونوا منسجمين مع ابتكارهم هذا عليهم أن يسموها “مكتب التواصل الانتخابي البرلماني” فيضيفوا مصطلحا جديدا إلى القاموس السياسي المغربي في زمن رداءته.
لو كانت الإدارة خادمة للمواطن محترمة لحقوقه لما تحقق هذا التضليل الذي يعجز عن تأطير المواطنين ومخاطبة عقولهم طبيعي أن يختار شراء وولائهم بكل السبل.
ماذا سيحدث لو قرر كل نائب برلماني مغربي أن ينهج منهج هؤلاء، وفتح فروعا لمكتبه التواصلي في مراكز وقرى ومدن المغرب ؟
لا شك أنها الفوضى الشبيهة بفوضى الرقاة.
هكذا أعطى هؤلاء وظيفة غريبة ومضحكة للتمثيلية البرلمانية نكاد لا نجد لها مثيلا في برلمانات العالم.
السياسي المنتخب برلمانيا هو ممثل لكل المواطنين وهي صفة يستمدها من انتمائه السياسي أولا ورغبته في هذه التمثيلية ثانيا ومن تزكية لونه السياسي ثالثا وأخيرا بفوزه انتخابيا من أجل ممارسة التشريع ومراقبة الحكومة.
فلماذا التوسط لقضاء المآرب ولماذا يزعمونه تواصل، وهو سلوك خارق لبنود دستورية عديدة تحمي المساواة وتكافؤ الفرص في الولوج الإستفادة من الخدمة العمومية وتبخس الفصل 70 من الدستور المغربي الذي يحدد الصلاحيات العامة للبرلمان والبرلمانيين الذين انتهجوا هذا النهج كانوا خائفين من الموت الانتخابي ظاننين أن مكاتب تواصلهم ستحميهم منه.
لكن ما حدث هو العكس إذ كانت السبب في تعجيله ما داموا غير قادرين على إرضاء كل الطلبات الشخصية.
نماذج هؤلاء من البرلمانيين الذين ينتهجون هذه الأساليب التضليلية هم نتاج التعطيل المقصود للإنتقال الديموقراطي الحقيقي في شموليته.
في بعض الديموقراطيات يُسمح للبرلماني بفتح مكتب للتواصل مع المواطنين عامة لإعطائهم استشارات مجانية تخص قوانين لغاية تقاسهم معارف وخبرات راكمها أثناء مزاولته لمهمته التمثيلية ومشاركته في إعداد ومناقشة العديد من مشاريع القوانين الموجبة للتعديل، فتتحقق بذلك استفادة متوازنة عند الطرفين فالمواطن القاصد يكتسب توضيحا وتوجيها مناسبا والبرلماني باستماعه يكتسب قدرة على تعزير أدلته الدفاعية في اقتراحه تبسيط المساطر القانونية أو تعديلها لتصبح أكثر نجاعة.
برلمانيو الحلوى وبرلمانيو مكاتب التواصل وبرلمانيو النوم وبرلمانيو الغياب المستمر عن جلسات النقاش وبرلمانيو الراتب والتقاعد المريح وبرلمانيو التبعية، بمثل كل هؤلاء سيكون تطور النظام السياسي المغربي في اتجاه الملكية البرلمانية ودولة المواطنة أمرا مستحيلا، تبقى تجربة عمر بلفريج ورفيقه الشناوي (وهما برلمانيان عن فدرالية اليسار الديموقراطي) نقطة مضيئة بجرأة لما يقدمانه من مطالبات بتعديلات قانوية تخص : (ميزانية البلاط – الحريات الفردية – ضريبة الثروة) في بحر من الفوضى التي لن نستطيع أبدا فك طلاسمها المُؤَسِّسَة. نحتاج اليوم – أكثر مما مضى – إلى برلمانيين مدافعين عن المواطنة.