القابلية للاستعمال

11 أبريل 2019
القابلية للاستعمال
القابلية للاستعمال

 

محمد سالم الطالبي

محمد سالم الطالبي

مبكرا قرأ  المفكر الجزائري   مالك بن نبي ، وهو المقاوم العنيد للاستعمار،  قراءة عميقة للخطر الخارجي و  اسباب النزول الاستعماري و شروط النهضة،   من خلال نظرة تلتفت الى الذات  عوض الالتحاق بالجوقة التي تتناوب على ترديد  الخطاب “المستغيث” بالخارج، أي بنظرية المؤامرة مجردة من المسؤولية الذاتية في سعي دائم  لإطالة أمد الازمة، أو في احسن الاحوال إنقاذ ماء الوجه عوض النظر والتأمل  في وجوهها المختلفة. وهو الخطاب المعد سلفا  لتحقيق قدر من الخلاص الفردي يعفي صاحبه  من واجب العمل على تحقيق  خلاص جماعي يحتاج الكثير من الوقت الى جانب الجهد بطبيعة الحال..

لقد اراد الرجل من خلال ما اسماه بالقابلية للاستعمار ان يقيم صرحا يؤسس لمشروع فعلي متكامل يثمن و يعيد الاعتبار لمقومات النهضة الحقيقية التي لا تبنى من داخل اطار مسلوب الارادة، وانما بالعمل، كخطوة اولى الى الوراء،  على هدم الاسس التي انبنت عليها اسباب الهزيمة الحضارية التي فتحت الباب لاحقا  امام تداعي الامم على قصعة الطعام العربية والاسلامية، هذه الاخيرة  التي مازالت تغني و تغذي بسخاء النهم الغربي، و تفتح شهيته لالتهام المزيد من مواردها وثرواتها دون ان ننسى سيادتها التي صارت هي الاخرى في عداد المفقودين.

ولعل السلاح الاهم و الاكثر تأثير في معركة النهضة هذه  هو العودة الى حيث تقبع شروط الهزيمة الداخلية، و المبادرة الى  تفتيت مواقع “الدفاع”  المصممة بإرث متجاوز يشتت انتباه الناس، و يعيق  رؤية مواطن القوة، و يمنع بالتالي استنهاض روح المبادرة التي تخنقها ادوات  التخلف عن إعمال العقل.

والرجل  من اجل النهضة الحقيقية انصرف بذلك الى النضال الاكبر حيث امتشق سلاح الفكر في “تمرد” على ما تعودت عليه احوال الناس واهواءها   لسبر اغوار الذات المتآمرة على نفسها، فهو يرى بانها تؤهل نفسها يوميا لتقبل الاستعمار، بصرف النظر عن اشكاله، حتى ولو  صرخت بملء فمها  ضد ما تعتبره  بمؤامرة ضدها ، مبتعدا عن “فقه” الاستسلام القدري الذي يغوص في البكائيات ويبعد الانظار عن اسباب الازمة الداخلية ، و يبتعد  في النهاية عن خارطة طريق  التحرر الذي يكمن في اجتثاث جدور التخلف الحضاري التي لن تقبل التعايش اصلا  مع أي فكرة اصلاح لوجود القابلية للاستعمال و غياب شروط الاستقلال.

لهذا  فالبناء الجماعي  الذي من شانه  ان يسهم في خلق  المناعة الحضارية والتنمية الذاتية  القادرة ليس فحسب على طرد التهديد الخارجي و مخلفاته،  بل وعلى ردعه   حتى عن  التفكير في  تجاوز حدوده الاقليمية، يستدعي عملية هدم داخلية  دون الالتفات لحجم التأثيرات الجانبية.

لقد ادى عموما  الانشغال بالخارج، أي خارج الذات، و توجيه اللائمة عليه حصرا  باعتباره مصدرا للمؤامرة  الى تبديد الجهد و تأجيل الموعد مع التاريخ في الكثير من المحطات عبر التاريخ ، بالإضافة  الى  نزيف سياسوي  شل حركة التفكير الموضوعي البناء، ولم ينتج في النهاية سوى ببغوات لا شغل يشغلها عن عيوبها  باستثناء البحث عن منابر شعبوية  لتكميم افواه النقد و النقد الذاتي،  وذلك عبر استثمار الكذب و  تجييش مرشحين كل ما يحتاجونه للانخراط  في هذا  المشروع التافه هو التعبير عن  قابليتهم للاستعمال.

إن فكرة العودة الى الذات ونقدها، متبوعة بالتأسيس لحركة تصحيحية و اصلاحية،  لم تكن في الواقع مجرد ترف فكري دفعنا في لحظة بصيرة، قبل ازيد من 6 سنوات،  الى المسارعة لهدم بناء العسكرتارية الايديولوجي الفارغ والاطمئنان على  تحييد ركامه، و إزالة اذاه كاملا  عن طريق الجماعة، وانما عكست وجود  قناعة بجدوى غلق هذا القوس الى الأبد، حتى لا تتكرر المأساة الانتخابية، و فتح الباب امام الامل في  نزول مشروع بديل وحضاري  على ارض الواقع،  بعد ان  تلبدت سماء الواقع السياسي محليا بغيوم  اللغط والسفسطة لتصير الرؤية المستقبلية  غير واضحة بالمرة، الشيء الذي ادى في النهاية الى تنامي المد الشعبوي الفاقد لأبسط  تصور  للإصلاح، و الذي يشكل وجوديا حجر عثرة امام تقدم الامور   في الاتجاه الصحيح.

غير ان خطورة خطاب المؤامرة الخارجية، الذي احترفته العسكرتارية،  لا تقف عند حدود التيئيس و اجهاض الهمم وتجميد المبادرة ونفي العقل تماما   فحسب، وانما تتعداه لكون هذا الخطاب يتسلل الى الذات  عبر منافذ العواطف المجيشة  ليفتك بالمناعة العقلية المفروض توفرها في كل انسان حر ومستقل يرفض ان يتم التعامل معه كمجرد أداة قابلة للاستعمال، وفي الان نفسه فهو يستغله كوسيلة لكسب الثقة و  لبسط غطاء  الشرعية والمصداقية على رموز الفساد والافساد. وهذا ماتم عمليا مع وصول العسكرتارية الى السلطة عندما منحت تزكيتها لمن كان ولايزال جزءا من المشكل وليس الحل، وهاهو اليوم يصل بفضل نفاقهم الى رئاسة المجلس البلدي. و بالموازاة مع ذلك زرعت فيروسات في جسم المجتمع تخصصوا في التاثير على عقول الناس و تعطيل ملكة النقد لديهم من اجل  اقناعهم بقبول ودعم  لعبة العسكرتارية  المتآمرة على حاضر ومستقبل المدينة والمنطقة بشكل عام.

فالعسكرتارية  بهذا المعنى أعادت  انتاج الفساد بأدوات اصلاحية مزعومة،  في بيئة “نضالية”  وفرت له كامل شروط الحياة دون ان تخجل من الادعاء بمحاربته على مرأى ومسمع الناس.

وقد نتج عن هذا القصف الايديولوجي الهدام مساحة فراغ فكري،  تخشاه الطبيعة طبعا، لم تترك مجالا تتقارع فيه الافكار بشكل طبيعي  بقدر ما سمحت فقط بجوقة تتعالى انغامها المملة  على ايقاع الاستبداد و التخوين و الاستئصال لأي صوت يغرد خارج السرب المدجن.

هكذا بدأت العسكرتارية، وهي النسخة المشوهة بالمناسبة  لروح  السكرتارية كتيار مدني و حضاري كان الامل  من تأسيسه  شق طريق ينحرف عن  الانماط الجاهزة و يقدم نموذجا مختلفا في تحريك مياه التفكير الراكدة، في الانقلاب على  المبادئ المشتركة و سارت ابتداء على طريق التحكم في مصادر الشرعية الانتخابية  انتصارا لمنطق عائلي و  قبلي متخلف  و خدمة لأجندة سياسية معلومة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة