فتاة في الكوخ

7 مارس 2021
فتاة في الكوخ

في أحدى جزئيات رواية رومان غاري (جذور السماء).. يفكّر السجناء (الفرنسيون) في طرد السآمة عنهم فيستجيبون لاقتراح سجين منهم اسمه روبرت. كان اقتراحه هو أن يشتركوا في لعبة أسماها (فتاة في الكوخ) وهي أن يتظاهروا جميعا بوجود فتاة غير مرئية بينهم ويتصرفون على هذا الأساس فإذا ما تفوّه مثلاً أحدهم بكلمة نابية أو شتم آخراً منهم اضطر للانحناء عند ركن الغرفة وتقديم الاعتذار. كذلك يحرص الجميع عند خلع ملابسه أن يخلعها وفق طريقة تحترم وجود هذه الفتاة فيستتر ببطانية أو نحو ذلك.لكنهم شيئا فشيئا يقتنعون أنها موجودة فعلا، فتتغير حياتهم، فلا يلقون النكات البذيئة أو يتبادلون الشتائم، احتراما لوجود آنسة في المكان، ويبدؤون في الحرص على أناقتهم ليحظوا بالإعجاب منها. ترتفع معنويات السجناء إثر هذه اللعبة ويتحسّن سلوكهم مما يحدث الارتياب في نفوس السجانين (الألمان). يجري قائد السجن تحقيقاته ويكتشف أمر اللعبة! كأحد أساليب التعذيب النفسي يدخل القائد الغرفة برفقة جنوده ويخبر المساجين بأنه على علم بأمر الفتاة التي يخفونها وأنهم مطالبون بتسليمها فوراً، لأن الضباط بحاجة إلى (بغيّ) ترفّه عنهم. يصدر هذه التعليمات ويخرج مباشرة. يفكّر المساجين في الأمر ويتناقشون في ما بينهم ويقررون عدم تسليم الفتاة. لأنهم يرون أن تسليما رمزياً كهذا سيكسر كرامتهم ويذهب بأنيستهم إلى غير رجعة. إن الفتاة كائن حي تغذى ونمى على خيالهم ويصعب التفريط فيه دون مقاومة. يعود القائد في اليوم التالي بكل إصرار على تسلّم الفتاة. يتكلم “روبرت “نيابة عن الجميع ويعبّر عن رفضه تسليمها نهائياً. يشعر القائد بمرارة الهزيمة ويدرك عجزه عن سلب الرجال إبداعهم وإيمانهم به. بانفعال يقرر اعتقال “روبرت” وتعذيبه. بعد أيام يعود “روبرت ” إلى رفاقه معذباً مرهقاً هزيلاً. يفرح الجميع بعودته لأنهم تقريباً كانوا يائسين من رؤيته ثانية! كان جميع المساجين مفعَمين بنشوة الزهو عندما تمكنوا من حماية فتاتهم. كان روبرت أكثرهم نشوة واعتزازا..

أشياء كثيرة نتخيلها نحن ابناء هذه المدينة الجميلة،رغم مرارة القلة والذلة و الواقع البئيس.نحاول ( كلما استطعنا الى ذلك سبيلا) حماية هذه الاشياء الجميلة التي كبرنا على وقعها ونثوارتها جيلا بعد جيل ..مثل اننا كنا اكثر حضارة من اقرب المدن الينا وكنا بمطار وميناء وثلاث دور سينما واذاعة ومجلة ومسارح .. نتشبت بها ونحن نكابر ونعاند ونكررها امام الذين يريدون انتزاعها منا .هذه الذكريات مثل فتاة الكوخ لم يعد لها وجود ولكنها جزء من كبريائنا وصمودنا وعنادنا وهويتنا.هم ايضا يدركون ان لا وجود لها ولكن امعانا في اذلالنا يحاولون ارغامنا على النسيان والتجاوز والاستخفاف بها وحين سينجحون لن نستطيع النظر في عيون بعضنا البعض..

لنكن صادقين. سيدي افني ليست مدينة جميلة كباريس ولندن.لكن جمالها ليس في بنيتها، بل في روحها.ثم اننا لا نملك مدينة غيرها .صحيح ان المعاناة تجعلنا أقوى. تُجبرنا على الصمود. تصنعُ ما نحن عليه،ولكن الأفضل ان لا نتعود استخدام لغة اللافتات والمنتخبين العابرين او الطارئين وان نتفادى المعارك الصغيرة التي تنهكنا وتمنحنا احساسا كاذبا بالانتصار وتعطلنا عن خوض معركتنا الحقيقية من أجل العدل والحريةوالكرامة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة