في الطريق لأبي الفضل..

24 أغسطس 2021
في الطريق لأبي الفضل..
في الطريق لأبي الفضل..
ذ.مبارك ابو الفضل

“.. أخبركم كذلك أنني مضطر، آسفا، لإقفال هذه المجموعة.. وأرجو منكم أن تنشئوا مثلها، فأنتم تعرفون بعضكم جيدا، وقد برهنتم على روح التواصل العالية..
الذي يدفعني للإقفال أنني كنت أستفيد من الرقم المهني الذي يتعين علي التخلي عنه.. وإذا أنشأتم مجموعتكم من جديد بمبادرة منكم سأكون سعيدا بالانضمام إليها إذا اعتبرتموني أستاذا من أساتذة اللغة العربية”..

الجملة هذه، ضمنها الأستاذ مبارك أبو الفضل، مفتش للغة العربية بالسلك الثانوي، يتقاعد قبل دقائق من شروعي في كتابة هذا المقال، رسالة نشرها بنفسه في مجموعة للواتس اب، جمع فيها طائفة من أساتذة اللغة العربية ينتمون لفئات عمرية شتى، اشتغلوا أو يشتغلون بمديرية سيدي إفني.

الحديث عن سي مبارك هو حديث عن الجيل المجيد، الذي تخرج من الجامعة نهاية السبعينات وشرع بعدها في التدريس بالمؤسسة العمومية، إنه الرعيل المُجِدُّ المؤسس، من يعود له الفضل في نحت مسارات أجيال بعده. ولعله المؤتمن على الإحاطة بالعطب وإدراك ممكنات الإصلاح وفعاليات اليوم ، كونه نقطة وصل بين مرحلتين متشاكلتين . جيل استقى المعين الأصيل لأبجديات التعليم بحرفية عالية .

ولد سي مبارك بقرية أولاد جرار بضواحي تيزنيت وظل وفيا لها، مستقرا بها رغم التطواف المهني بين حواضر شتى، أولها گليميم التي احتضنه ثانويتها العريقة “الباب” مايقارب عقدين، ثم طاطا التي حل بها بداية الـ 2000 مفتشا تربويا ، ورابط فيها مُدَدا، قبل أن يحل بالحاضرة الباعمرانية.

حادثةُ
بشارب شبه أشيب كثّ كثيف، وقامة قصيرة، وهندام مرتب بعناية ينسجم مع محفظة جلدية سوداء متسقة مع حذاء إداري لامع السواد، استقبلته في القاعة 6 بثانوية المغرب العربي بمستي لخمس مرات تردد فيها أبو الفضل على زيارتي التأطيرية في المرحلة الأولى من اشتغلي هنالك، وكانت أجمعها فُرصا ثمينة لتقييم الأداء وتقويمه، الزيارة الثالثة كانت الأشق الأصعب، محك تكويني من ساعة كأنما هي الجحيم النعيم. ذات زوال صامت بعد انتهاء الدوام سنتجالس متقابلين في نهاية القسم، كانت المنزلقات في درس لم يحسن صاحبه بناءه جيدا تزداد، وكانت حفيظة المفتش تزادا معها امتلاء، وماكان لها إلا أن تنفجر في مستهل الجلسة بعد هنيهات صمت أعقب مغادرة التلاميذ. صرخ أبو الفضل وعلا صوته، وضرب بالقلم الطاولةَ في غضب عارم، وكاتب الأسطر مطأطئ الرأس صامت، في شبه استغراب لما يجري!

تلك اللحظة الغاضبة، ضمنها سي مبارك ما يعتصر قلبه – ربما منذ سنوات – من حسرات وغصص، عاتبني مطولا عن دفتر النصوص شبه الفارغ، عن رداءة الخط فيه، عن غياب التأريخ، ثم ساءلني عن كراسة التنقيط فلم يجدها، “ماهذه الردة التي حصلت معك؟!” باستغراب فائر قال، وكانت النبرة والحدة تزدادان شيئا فشيئا، كان المشهد مريعا… حوَّلَ العتاب بعدها من ضمير المخاطَبِ المفرد لضمير المخاطب الجمع، فاستشعرت حينها أنني نقطة أفاضت الكأس من دون شك. “كيف أمضيتم الجامعة ولم تتعلموا طريقة جيدة للكتابة؟! “…ثم متحدثا عن تنقله من بلدته فجرا صوب المؤسسة بسيارته البسيطة الخاصة(مسافة 140 كلم تقريبا) : ” ماذا لو تعطلتْ أو أُصبتُ بحادث.. لا أحد سيستحضرني”؟!..، ثم تعريجٌ على مباراة شفوية للولوج لمراك “أتدري سي الكنتاوي، سألنا المترشح أول أمس عن شاعر واحد من شعراء التفعيلة، فلم يعرفه!.. ولا يعرف ما إن كان السياب حديثا أو معاصرا”! ،كان واضحا حجم الأسى في النبرة الغاضبة، أسىً على أنساقٍ متداخلة، تتجاوز تقييم حصة إلى تقويم منظومة.

تفاصيل :
1- لسي مبارك أذن بيضاء بلسان” البيظان” ، ذوّاقة متذوقة للنغم. علاقتي بنجله البكر مكنتني من اكتشاف هذه الذائقة الموسيسقية الملهمة، أطلعني أيوب على تراث والده الموسيقي الذي ضم كل ماراكمته فيروز في مسارها الغنائي الطويل، إلى جانب قطع لأم كلثوم وجاك بريل… وذات مساء خريفي، ونحن نغادر المؤسسة بعد حصة طويلة، في خضم نقاش طويل نخطو على الرصيف، يتوقف فجأة، يشير لنا أن اصمتوا، يغمض عينيه ويصيخ السمع لصوت ترديد جماعي يتناهى عبر مكبر صوت مسجد : فقيه البلدة وطلبته يرددون أبيات البردة. أخذ يردد مع الصوت من محفوظه، ثم يلتفت إلينا ويتنهد : آه إنها البردة!

2- علاقة قوية تلك التي تربط أبا الفضل بالمكان، حدثني طويلا عن شعور الحنين الذي يشده لطاطا وأهلها حين أخبرته أننا ننزحُ لها من حين لحين. وفي قريته الهادئة يمضي جل أوقاته قريبا من أشجار الزيتون والسواقي وظلال العزلة .

3- خط أبي الفضل استثنائي بشهادة من رأوه، خط مشرقي أنيق أخّاذ. وكثيرا مايثير انتباهه رسم الحروف في السبورة (التي يميل لتسميتها لوحا)، فينبه التلميذ أو الأستاذ أن “الياء تكتب هكذا لا هكذا.. والغين نميزها عن الفاء بهذا التضليع…” ويمضي في شرح مسلمات يراها أولى أولويات الدرس.

4- يقرأ أبو الفضل باللغتين العربية والفرنسية، وقد سبق أن ترجم كتيبا في موضوع الديداكتيك التربوي من الفرنسية للعربية. وحين يتفاعل عبر وسائط التواصل، فإنه يفعل بانتباه وتركيز فائق، كل تعليق أو رد على رسالة رقمية يبرز دقة لامتناهية من الاعتناء بالصياغة وإيجاز المعنى.

5- ينسحب النقاش بين العامة غالبا لشكليات معينة. على هذا النحو، طالما استأثرت سيارة أبي الفضل reno express ، بنقاش مستغرق حول سر احتفاظ الرجل بسيارة عتيقة عمرها اليوم 30 سنة! يبدو الأمر شاذا في ساحة المظاهر والكليشيهات، ويبدو طبيعيا جدا بل منطقيا في ساحة الأذواق والميول الشاعري الشعوري “وحنينه لأول منزل”.

6- يبتسم ابتسامة خجلى عفوية كلما ذكرت له بيتا أو مقطعا شعريا أو إسم شاعر، ابتسامة تلقائية تكشف انفعالا شعوريا خالصا وعلاقة وطيدة بالشعر قبل أن يسهب في النقاش،فاتلا من كلمة حديثا طويلا ممتعا. علاقة وطيدة بالفعل تلك التي تربط أبا الفضل بالقصيدة، يحفظ منها تراثا غزيرا من عيون الشعر العربي، ويستدعيه في نقاشاته .

زين العابدين الكنتاوي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

التعليقات تعليق واحد
اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
  • جامع مرابط
    جامع مرابط 25 أغسطس 2021 - 7:03

    الأستاذ المفتش التربوي لمادة اللغة العربية الصديق سي امبارك ابوالفضل رجل مسؤول، كفاءة وطنية تربوية عالية له غيرة كبيرة على منظومة التربيةوالتكوين .
    اشتغلت معه على ملفات تربوية وإدارية مهمة مكنتني من التعرف عليه عن قرب…..لمست فيه ذلك الإنسان المتواضع الوفي لقناعاته التربوية الشجاع و الواقعي في تعامله مع القضايا التي اشتغلنا عليها.
    تقاعده سيشكل فراغا تربويا .اتمنى له التوفيق والطمأنينة وراحة البال والصحة والعافية بعدما أدى رسالته التربوية باخلاص وبنكران للذات.

الاخبار العاجلة