
محمد سالم الطالبي
أصبحت لازمة الزمن الجميل موضة عند الكثير من رواد الفيسبوك يستحضرونها في معرض النكاية بالحاضر من الأحداث و المتغيرات المتسارعة التي لم تعد تروقهم، وهكذا فالذين عاشوا مثلا مرحلة الستينات و السبعينات من القرن الماضي يتحدثون عن زمن جميل عاشوا جزءا منه خلال الاستعمار و ما بعده، اي عندما انتشرت حركات Peace and Love في العالم، و ما رافقها من تعبيرات على المستوى الفنى ، اما بالنسبة لاخرين فالزمن الجميل يختزلونه في ذكريات الثمانينيات و التسعينات عندما كانت سيدي افني خارج تغطية الدولة، كنت اذكر مثلا انه خلال الحفلات الوطنية كنا نهب بكثافة لمتابعة مراسيم تحية العلم الوطني و باقي الاحتفالات لانها كانت تمر على إيقاع الجوقة الموسيقية الراىعة المسماة آنذاك “لاباندا”، هذه الأخيرة التي تركها الاستعمار الاسباني وراءه قبل أن يرحل الي الأبد . اذكر انه و لفرط إعجاب الجميع بانغام تلك الجوقة الموسيقية كلفني مدير مدرسة ابن طفيل بترأس جوقة موسيقية مشكلة من مجموعة من التلاميذ قضينا ما يزيد عن شهر تقريبا في محاولة لمحاكاة ” لاباندا” َمن خلال الضرب على “سطولا ديال الصباغة”، كمشاركة منا في احتفالات عيد العرش.
وجاء بعذ ذلك جيل جديد لم يصرف من عمره حتى 20 سنة كاملة، و مع ذلك بدأ بدوره سريعا في الحديث عن زمنه الجميل. ولعل كل هذا ينطوي على رغبة جماعية في “الحريك” الى الماضي كما لو ان الحاضر لم يأت البتة بشيء جميل.
والواقع ان بنادم هو اللي” خايب”، إذ ما “أن يقطع الواد و تنشف رجليه” حتى يدخل في حالة اغتراب متنصلا من القيم الإنسانية الجميلة لكل زمان و مكان.
وهكذا و في لحظة حنين جارف “يجرد” الإنسان في ضوء نظرة فلسفية للحياة مفهوم الزمن الجميل، وكأن عقله ” مابقاش نافعو” و يريد أن يحتفط فقط بتلك الذكريات الجميلة و المشتركة التي كان يوما بطلها في غياب ” العقل”.
ولا ادري شخصيا لماذا لا يرافق هذا الحنين الجميل حنينا أجمل ينظر بعين الاعتراف و العرفان إلى الإنسان كذلك، و يسعى إلى أحياء قيم التضامن في الزمن الحاضر، أليس اكبر دليل على هذا الاغتراب الذي نعيشه اليوم هو حالة الفنان محمد بيري الذي يعاني في صمت في انتظار قرار الافراغ الذي سيتسبب لا قدر الله في تشريد أسرة بكاملها؟
و محمد بيري الفنان المرهف ليس للأسف من طينة الذين يشهرون في وجه الدولة لافتات سياسية كواجهة من أجل قضاء حوائجهم بالسر والكتمان، والا لكان له نصيب من غنيمة اكلو و سيدي وارزك منذ مدة ، ولكنه وللأسف مجرد مواطن بسيط اعتقد بسذاجة أن “الدم عمرو مايصير ميه”، كما يقول المصريون، و قد أتى حين من الدهر ليتنكر الجميع لفنان عصامي صامت تحول إلى ضحية في هذا الزمن الرديء .
قليلون يعرفون ان َمحمد بيري، الفنان العصامي، و الذي تعلم على يديه الكثيرون من عاشقي الموسيقى الغربية من البلوز و الجاز مرورا بالبوب و غيرها من الألوان التي يروضها الاستاذ بيري بانامله المتمرسة على آلة الغيتارة كان من رواد الفن في المدينة ومن مبدعيها الذين لا يحبون الظهور ، لكن الواقع ان الجميع تنكروا للرجل بعدما شربوا ما يكفي من معين ابداعه السخي، بل منهم من تجرأ حتى على “بيع” تلك الاسطوانة المشروخة بوصف نفسه تعلم بمجهوده الخاص، والحال ان بيت محمد بيري كان في زمن الازمة الفنية معهدا يلقن لكل من طرق بابه ابجديات الموسيقى و الإبداع.
كيف يعقل ان تشرد عائلة تعيش اصلا أزمة مادية ومالية خانقة في ظل تداعيات أزمة اقتصادية أقسى خلفتها أزمة كورونا المتواصلة؟
الا يستحق هذا الرجل التفاتة خاصة، و هو الذي غطى الفراغ الفني في “الزمن الجميل”، حيث لم يكن فيه لا معهد للموسيقى و لا اي وسيلة تعليم أخرى، مثلما هو الحال آلان، و هو الرجل الذي منح من وقته و من جهده ما يكفي ويزيد من اجل ان يلهم شباب وجدوا في الموسيقى وحدها دون سواها ملاذا انقذهم من براثين زمن كان يغري بكل طرق الانحراف؟
والله لو كانت هناك ارادة حقيقية، كما تقول بيانات اصحاب الشفوي، لنجحت فئة قليلة في اقتناء شقة لعائلته، و ليست منة من احد ، بل واجب وطني و أخلاقي، و لعله القليل مما يمكن أن يمنح لمواطن افناوي لم يمنحه الفن في الزمن الرديء سوى الجفاء و نكران الجميل.
وكم هو محزن ان يحدث هذا في مدينة عرفت بارقى أشكال التضامن والتازر ، خصوصا عندما نعرف جيدا ان البعض من اغنياء الحرب يصرف خلال الانتخابات أضعافا مضاعفة ليس في سبيل الله و لا في سبيل الوطن، و انما فقط ليعبد طريقه نحو كراسي السلطة، ويستمتع بعد ذلك بالحديث عن الاكراهات و عن المشاكل التي لا قدرة له ابدا على حلها.
ان الزمن الرديء حقيقة هو ما عبرت عنه اغنية ناس الغيوان حين قالوا ذات زمن جميل :
“ما يهموني غير الرجال إلى ضاعوا، الحيوط الا رابو كلها يبني دارو “.