نون بوست_متابعة
مال تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول “حراك الريف” والذي صدر مؤخرا بعد طول انتظار، إلى تكرار “السردية الرسمية” بخصوص كثير من الوقائع والأحداث التي شهدتها سواء الاحتجاجات، التعامل الأمني معها، الاعتقالات، المحاكمات، ظروف المعاملة في السجن.
“الريف” تلك الكلمة الطابو ..
إن تمسك المجلس برفض إطلاق توصيف “حراك الريف” على ما شهدته المنطقة وتشبته بتعبير “احتجاجات الحسيمة” يعتبر في حد ذاته موقفا سياسيا مسبقا من هذه الوقائع رغم الإسهال في التبريرات اللغوية التي قدمها كاتبو التقرير لتفسير هذا التموقع، فعلى عكس ما يقوله المجلس فإن الاحتجاجات لم تنحصر في الحسيمة وحدها بل شملت الناظور والدريوش وغيرها، وقد كانت التظاهرات فعلا حالة عامة في الريف طيلة أشهر وقد عمت تنسيقيات الحراك كل ربوع الريف وتفاعل معها الريفيون خارج المغرب.
إن استعمال توصيف “احتجاجات الحسيمة” هنا لا يمكن فهمه إذن إلا في إطار محاولة التقليل من حجم أقوى الحركات الاجتماعية التي عرفها مغرب “العهد الجديد” ، وكذا محاولة للقفز على الخصوصية التاريخية للمنطقة، فلا يزال يجري التعامل مع كلمة “الريف” بحساسية مفرطة على المستوى الرسمي على ما يظهر، وكاتبو التقرير رغم مرجعيتهم الحقوقية لم يستطيعوا كسر هذا “الطابو” .
الحقيقة الأمنية المقدسة
تظهر اللغة المستعملة في تدبيج التقرير-الذي نشر ملخص منه- منذ البداية أن كاتبيه لم يعملوا مسافة بينهم وبين رواية الدولة كما فعلوا مع المحتجين، فوجدنا التقرير في قسم كبير منه وكأنه يتحدث باسم القوات العمومية من خلال سرد وقائع بناء على الرواية الأمنية واعتمادها كحقائق مطلقة بيقينية ودون تنسيب أو أخذ وجهة نظر الطرف الآخر في إطار إعمال التوازن المطلوب من مؤسسة دستورية بحجم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فيفهم من التقرير أن بعض أعمال “العنف والشغب ” أو “المواجهات” لم تسبقها أو توازيها أي أحداث أخرى، من قبيل تكسير أبواب بعض المنازل أو اعتقالات جماعية .
“فوجئت قوات الأمن بعدد من المتظاهرين وضمنهم أشخاص ملثمون قاموا بإغلاق الطريق بالأحجار.. وحاصروا سيارة الشرطة والعناصر التي تواجدت بعين المكان، حيث كان المتظاهرون في أعلى الطريق وعناصر الشرطة في أسفلها، ثم بدأوا يرشقونهم بالحجارة بشكل مكثف واستمروا في أعمال العنف وواصلوا الاعتداءات” ، نقرأ مثلا في جانب من التقرير.
وفي جزء آخر يبرز الاعتماد بشكل منحاز على رواية واحدة لتوصيف بعض الوقائع يقول المجلس : “ … وجاء العميد لإنذارهم بضرورة التفرق في تلك الأثناء بدأوا يرشقون بالحجارة مستعملين المقالع محاولين إلحاق الضرر بالعناصر الأمنية، رغم توفر أدوات التدخل كانت التعليمات تقتضي بعدم استعمال القوة لكن لما استفحل الأمر وبدأت الإصابات في صفوف عناصر الأمن تم استعمال القنابل المسيلة للدموع” .
وفي تطرقه لحصيلة الاحتجاجات، لجأ التقرير إلى اعتماد المصادر الرسمية أو شبه الرسمية -اعتماد تصريحات محمد كروط محامي المديرية العامة للأمن الوطني- وحدها ولم يلجأ في أي لحظة إلى البحث عن مصادر محايدة، فإذا كان التقرير نقل التقديرات بخصوص حجم الخسائر في صفوف القوات الأمنية، فإنه لم يول أي اهتمام للتقارير التي تتحدث عن الإصابات في صفوف المحتجين سواء أثناء المواجهات أو أثناء تفريق الاحتجاجات من طرف القوات العمومية.
يظهر التمييز وغياب الحيادية كذلك صارخا في تقرير مجلس بوعياش، في الاستماع بتفصيل إلى شهادات رجال الأمن في الأحداث التي اعتبرها مجلس بوعياش تمثل “عنفا حادا” ، فيما لم يتم الاستماع إلى الروايات المتعلقة بالإفراط في استعمال القوة خلال الاحتجاج أو التطرق إلى عدد كبير من المقاطع المصورة التي تصور هذا التعامل، ويكتفي هنا المجلس بالقول باحتشام في خلاصاته “عندما كان استخدام القوة ضروريا في بعض منها، فقد كان ممكنا أن تكون غير مفرطة أثناء تفريق التجمهرات والإيقافات” .
أتى هذا الاستماع الذي هم 19 عنصر أمن حسب المجلس لإكمال التقرير ولتجنب “التقديرات الشخصية” ، دون أن يوضح واضعو التقرير أي أسس اعتمدوها للتحقق من مدى صحة ودقة هذه الإفادات التي تم التعامل معها بإفراط في التقديس.
محاكمة نوايا المحتجين
بدل الاكتفاء بالقيام بدوره دخل تقرير المجلس في “محاكمة نوايا” لمطالب حراك الريف حينما اعتبر : “إن إدراك تنوع مطالب احتجاجات الحسيمة هو الذي يفتح الطريق في اتجاه تحقيقها، كما أن تقديمها ككتلة واحدة وبشكل متصاعد يمكن أن يشكل تعبيرا عن الرغبة في عدم التقدم نحو الحل، والرهان على التصعيد، مما أعاق الحوار حول تحقيقها” ، ودخل بعدها في نقاش تقني تبريري حول ما يصفه بـ “المطالب العادية” و المطالب التي تتطلب مسطرة خاصة.
إن المجلس هنا يلمح بوضوح إلى أن المحتجين كانوا يرفضون الحوار ويذهبون في اتجاه التصعيد وأن بعض مطالبهم كانت تتسم بالمبالغة، وهذا تماه واضح مع الخطاب الرسمي الذي كانت تحمله الدولة في ذلك الوقت واستعمل لاحقا لإضفاء المشروعية على “الأمننة” .
وإذا كان المجلس قد أعطى الحق لنفسه بتقييم مطالب حراك الريف وتحديد المعقول وغير المعقول منها، فإنه بدا محتشما أثناء تطرقه إلى مكمن الداء وأسباب اندلاع الاحتجاجات من الأساس، محتميا بالخطاب الملكي.
اعترف المجلس بأن تعامل الدولة مع مطالب المحتجين لم يكن جديا إلا في مرحلة أخذت فيها الاحتجاجات منحى تصاعديا وأن المحاولات الأولى للحوار لم تكن ذات مقاربة تشاركية، لكنه يلوم المتظاهرين على ذلك من خلال القول بأن أعمال الشغب والاحتجاج العنيف فوتت الفرصة للحوار، ولم يشر التقرير إلى دور اعتقال قادة الحراك والمئات من المحتجين ونشر القوات الأمنية بشكل مكثف داخل الأحياء السكنية في الزيادة من تأزيم الوضع والاحتقان الاجتماعي وتعطيل فرص إيجاد حلول سلمية للأزمة، كما يعتمد التقرير تاريخ 26 مارس من سنة 2017 تاريخا لبداية ما يصفه ببداية “العنف الحاد” ، والواقع أن أحداث إحراق إقامة القوات العمومية لم تتزامن مع تنظيم أي نشاط احتجاجي دعا له قادة الحراك، وقد تبرأوا لاحقا من هذه الأحداث، وهو ما لم يشر إليه التقرير.
لا نقد لـ “خطاب الدولة”
تجاهل المجلس كذلك الإشارة إلى أن متن الخطاب الرسمي للدولة تجاه الحراك قد نحا منحى راديكاليا أسهم في تعقيد المشكلة، فقد اعتبرته بشكل واضح تهديدا أمنيا مرتبطا بأجندات انفصالية وتمويلات خارجية ويحمل أهدافا مشبوهة، وقد كان ذلك مقدمة لشرعنة انتقال الدولة إلى “الحل الأمني” .
وإذا كان المجلس قد وجه نقدا للمتظاهرين وهم الطرف الأضعف في المعادلة، فإنه في المقابل لم يقدم أي نقد لجدوى “المقاربة الأمنية” ، بل يسلم وعلى ما يبدو أنها كانت ضرورية ومبررة ومعقولة، دون أن يحدثنا عن الآثار الاجتماعية الكبيرة التي خلفتها هذه المقاربة.
“إن طريقة تعاطي السلطات العمومية مع المحتجين ليست سوى لحظة ضمن مسار تدبيري يتميز بحضور قوي لإقليم الحسيمة في أجندة السياسة التنموية للدولة خلال العشرينيتين الأخيرتين… ” ، يرد في التقرير.
التجأ تقرير المجلس كذلك إلى تعريفات تقنية طويلة واجتزاء مضلل وغير بريء، لعدد من تصريحات قادة حراك الريف لوصف خطاباتهم بأنها عنصرية ومحرضة على العنف والكراهية، رغم أن عدد هذه التصريحات المنزوعة عن سياقها التي أوردها تقرير المجلس هي 3 تصريحات فقط، ومن غير المفهوم حشرها في التقرير وتقديمها وكأنها تمثل المتن الخطابي المؤسس للحراك الذي كان بالمناسبة متنوعا ويضم أطيافا مختلفة وغير متجانسة، مسيسة وغير مسيسة.
موقف مسبق..
فضلا عن ذلك، يمكن اعتبار تصريح التقرير بكون الأحكام الصادرة استندت على ما راج أمام المحكمة وليس على الاعترافات إما تضليلا متعمدا أو تغاضيا عن الحقيقة، لأن الأحكام صدرت بناء على ما ورد في المحاضر، ولم تعتبر هذه المحاضر مجرد استنتاجات أو معلومات فقط كما دفع بذلك التقرير بشكل غريب، دون أن ننسى امتناع التقرير عن التطرق للدفوعات الشكلية للمحاميين أو رفض شهود المعتقلين.
أما فيما يتعلق بادعاءات التعذيب اختبأ المجلس مجددا خلف الاجتهادات القضائية الدولية لتلطيف التوصيف الذي سيستعمله في وصف عدد من الممارسات، “يختلف التعذيب عن غيره من ضروب المعاملة السيئة بالطبيعة الحادة للألم أو المعاناة وشدتهما “ ، نقرأ مرة أخرى في تقرير المجلس الذي لم يورد في تقريره الشهادات الكاملة للمعتقلين بخصوص مزاعم التعذيب، في حين استقى الشهادات بشكل مباشر من رجال الأمن، وتتكرر ذات الملاحظة بالنسبة لما يتعلق بالحق في إشعار العائلات بوضعهم رهن الحراسة النظرية أو الإشعار بأسباب الاعتقال، حيث اكتفى المجلس بالقول إن بعضهم نازع في ذلك دون أخذ تفاصيل أكثر عن روايتهم، وهو ما يوضح بجلاء أن للمجلس موقفا مسبقا وينحاز للرواية الواحدة.
أفرد التقرير أيضا مساحة واسعة لما وصفه بـ “الأخبار الزائفة والمضللة” التي ارتبطت بالحراك والتي هدفت بحسبه إلى تهييج الرأي العام الوطني والدولي حول أحداث غير واقعة وتبخس عملية حماية حقوق الإنسان، وتخلق تقاطبات على مستوى الرأي العام، وبغض النظر عن كون اتجاه المجلس إلى التركيز على هذه النقطة محاولة للتقليل من شأن أهمية ما حصل في الريف واعتباره حدثا هامشيا أسهمت في تضخيمه “أخبار كاذبة” ، فإن المجلس في الوقت نفسه لا يخبرنا أي شيء عن الكمية الكبيرة من الأخبار الزائفة -وبعضها منظم كذلك- التي استهدفت منظمي الاحتجاجات قبل وبعد اعتقالهم.
كتب تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن حراك الريف في سياق خاص يتميز بتغول “المقاربة الأمنية” ، وبالتالي فإن التقرير هو ابن سياقه، إنها رواية أمنية للأحداث تستعين بخبرة تقنية في مجال حقوق الإنسان مع اجتهادات لبلورة وتأويل المفاهيم الجديدة بشكل يجعل السلوك الرسمي تجاه الريف يبدو معقولا، تقرير منحاز ينتصر لسياقه و للمنتصر.