هناك تحت سفوح جبال “آيت باعمران” الشامخة وعلى ساحلها الأطلسي الممتد، تنتصب مدينة”سيدي إفني” شاهدة على بسالة قوم مقدام وجسور. مدينة أرادها المستعمر الاسباني يوما حاضرة من حواضره، فأسبغ عليها لقب “سانتا كروز دي ماربيكينيا” أو مدينة الصليب المقدس للبحر الصغير.
وفي بيت من بيوتات هذه المدينة ترعرع “إدريس مبارك” في أحضان عائلة
مقاومة لا يكاد يتمم فيها الأب المقاوم والمشارك في أهم حروب الصحراء حديثه عن
معركة “إيگالفن” التي جُزَ فيها رأس العميل “حيدا بن مايس”،
حتى يستأنف الحكي عن أمجاد انتفاضة التحرير التي خاضها “أمغار سعيد”
رفقة نظرائه من “إينفلاس” ضد المعمر الإسباني. وبين هذه وتلك لا ينفك
الجميع يتغنون بشجاعة الشهيد “محند الخلفي” الذي قصم ظهر الجنرال
“دولاموط” في معركة “تيزي”.
من مولاي عبد الله إلى ابن زهر
تلقى “إدريس” تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي بحاضرة سيدي إفني حتى حصوله على شهادة البكالوريا من ثانوية مولاي عبد الله. ومنها سيشد الرحال صوب مدينة أكادير قصد استكمال دراساته العليا في شعبة الفيزياء بجامعة ابن زهر.
في مختبرات كلية العلوم سينكب “إدريس” على دراسة بنية المادة في أشكالها الثلاثة فضلا عن التفاعلات القائمة بين عناصرها الأساسية. وهناك لم يكتف بالملاحظة المجردة للأجسام، بل غاص في أغوارها واضعا إياها تحت عيون المجهر الفاحصة. وكانت غايته القصوى هي اكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية وتوجه مساراتها. تكوين أكاديمي وعلمي كان له الوقع الكبير في تشكل شخصية “مبارك” كأحد أبرز الصحفيين الجهويين بالمغرب.
مؤسس الإعلام الجهوي المشاغب
بعد تجربة رائدة في الإذاعة والتلفزة المغربية، حيث تمكن من استضافة أسماء سياسية، كانت في دائرة الممنوع، وقتئذ، إلى جانب برامج ثقافية وفنية كسرت الحصار عن رواد الإبداع الثقافي والفني الأمازيغي، سيقرر “مبارك”، في أواخر تسعينات القرن العشرين، خوض مغامرة فريدة على صعيد جهة سوس ماسة درعة آنذاك، حين ولج رحاب “السلطة الرابعة” من بوابة الإعلام الجهوي الذي وضعت لبنات صرحه الأولى جريدة “مشاهد”. فكان كالمسافر، والشمس تتوسط كبد السماء، في مفازة مقفرة وممتدة لا يستشعر كبريائها وقسوتها وعظمتها إلا من اقتحمها عن سابق وعي.
لم يكن الخط التحريري الذي ارتضاه “مبارك” لجريدته الجهوية يروق للكثير ممن يتقلدون زمام المسؤولية. فتقديسه لمبادئ “المهنية” و”الاستقلالية” و”الحياد” كمرتكزات لا محيد عنها في العمل الصحفي جعله يتخندق مع المواطن المقهور ويتبنى مظالمه، وهو الأمر الذي عرضه للكثير من المحاكمات والمتابعات القضائية التي ما تزال بعضها تتربص بمنشأته الإعلامية الرائدة.
تجارب جمعوية ونضال حقوقي
دينامي ومبادر ومبدع للأفكار، طموح ويحذوه التفاؤل دوما. فبالقدر الذي لا يتوانى فيه عن قبول المشورة من الأغيار بالقدر ذاته الذي يتقبل فيه النقد برحابة صدر. صفات من بين أخرى كثيرة يتحلى بها “مبارك” أهلته ليكون قيمة مضافة في ميدان العمل الجمعوي.
استهل “إدريس” مساره الجمعوي في نادي “الشموع”، حيث صقل مواهبه وأثرى مهاراته الجمعوية، لينتخب بعد ذلك رئيسا لجمعية “المبادرة الثقافية” التي نجح في إدارتها وإدارة المهرجان الدولي للسينما والهجرة الذي أطفأ شمعته السادسة عشرة على إيقاع نجاح يتلوه نجاح منذ إطلاق نسخته الأولى بمدينة أكادير سنة 2003.
وبعد انتخابه رئيسا للفرع الجهوي لأكادير وأقاليم الجنوب للجمعية المغربية لحماية المال العام سنة 2014، إنخرط “مبارك” في معارك ضروسة ضد “ناهبي المال العام”. معارك كان فيها أعزلا عاري الصدر، لا سلاح له فيها سوى القانون وإيمانه العميق بمبادئ الشفافية والنزاهة التي رضعها من ثدي أمه التي بوأها مرتبة القديسة التي تنير عتمات دربه الطويل.