
محمد عصام
في بلدي أخبار الموت لم تعد تفجع أحدا، لأن الأقدار جعلت من الموت لازمة تتردد كل يوم وكل حين بسخاء باذخ،
فمن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
لكن في بلدي الحياة أقسى بكثير من الموت ذاته، فكل موت في هذا البلد تتفجر معها أسئلة حارقة.. مؤلمة وموجعة حول الحياة؟ هل كانت فعلا لأصحابها حياة كريمة تستحق أن يحافظ عليها وأن يعض عليها بالنواجذ؟ أم أنها مجرد حياة بلا كرامة ولا دفء تتساوى مع الموت في طعم الإيلام والفجيعة؟
الخبر الصاعقة اليوم بموت 24 شخصا في معمل للنسيج قيل إنه سري، ليس فقط مفجعا ولكنه صادم بكل المقاييس، ففي بلدي لك أن تتصور أن الحياة وفي صلبها العمل يمكن أن تكون سرية، أي أنها غير مشمولة بالقانون، وبالتالي فهي خارج الكرامة التي هي الأصل في الوجود الإنساني، فلا حياة بلا كرامة ولا وجود للإنسان خارج مقتضياتها ومستحقاتها.
ما معنى أن يوجد في بلدي معمل يشتغل خارج القانون، وأن تكون ثمة ضيعات وورشات ومؤسسات تدر على أصحابها الملايير على ” ظهر” المساكين والمحتاجين للعمل و” لهف الدولة ” في مستحقات، هي عماد قيامها بمناطات التنمية الاجتماعية لعموم مواطنيها ولسلامة توازناتها المالية تنزيلا للدولة الراعية.
أين كانت أجهزة الدولة التي تراقب كل صغيرة وكبيرة وتتلقف دبيب النملة على الأرض؟ كيف يمكن أن نتصور إمكانية وجود ورشة تشغل العشرات من الناس يمرون في غدوهم ورواحهم أمام الناس وفي واضحة النهار دون أن تتلقفهم الأعين الخبيرة وتعرف على وجه التمام والكمال ماذا يفعلون وأين يشتغلون ولصالح من يكدون؟ هل يكفي أن يخرج بلاغ بارد ينعي الضحايا رحمهم الله وأسكنهم فسيح الجنات ويصف المعمل الذي يشتغلون فيه بأنه سري حتى نصدق الحكاية ونكضم غضبنا الذي بحجم الغصة!؟
لا يا سادة .. وألف لا يا سادة!
ليس عندنا شيء سري في هذا البلد، البؤس عندنا ليس سرا وهو الذي دفع الضحايا الى قبول الاشتغال خارج القانون ويسلموا رقابهم لمصاصي الدماء من المتهربين والهاربين من القانون، الفساد يا سادة في هذا البلد ليس سريا ولن يستحيي أن يظهر جهارا نهارا يكشر عن أنيابه ويمشي الخيلاء مستفزا كل ذي ضمير سليم في هذا البلد! .. وهو الفساد الذي جعل الأعين تعمى عن رؤية وجود أوكار الموت كهذا وتتغاضى عن القيام بما يجب حتى لا يقع ما وقع! .. ليس سريا في هذا البلد أن فئة من الناس تعرف من أين تؤكل الكتف تستطيع في كل حين أن تتلاعب بكل القوانين مهما كانت صرامة وبكل الراقبات مهما اشتدت، وتعرف جيدا أن في كل بنية قانون مسام ولو كانت ضيقة تستطيع الولوج منها لتعيث فسادا قد تزهق في سبيله أرواح وأرواح!.. ليس سرا في هذا البلد ان شجع البعض قد بلغ من البغي عتيا ولا يلجمه شيء وانه استباح البر والبحر ، الانسان والعمران !
سنلملم جراحنا ونتجرع كأس المرارة التي اسقتنا هذه الفجيعة كأسها! ..وأيادينا على قلوبنا خشية فواجع أخرى مادام الحال على ما هو عليه!
فلا تزيدونا فجيعة بادعاء وجود أسرار في حياة تعرفون ونعرف نحن أيضا تفاصيل بؤسها وجثم الفساد على أنفاسها، فإما أن نحيى بكرامة وإلا فإن موتنا وموت أبنائنا سيكتب على جبينكم حكم الإدانة الى يوم الدين.