أكناري .. فاكهة تتقاسم مع “آيت باعمران” المقاومة والصمود

15 أغسطس 2020
أكناري .. فاكهة تتقاسم مع “آيت باعمران” المقاومة والصمود

عبد العزيز السلامي

حينما تجد نفسك محاطا بجبال يمتد مجالها الجغرافي من وادي سيدي محمد بن عبد الله شمالا إلى وادي أسَاكَا جنوبا، ويحدها شمالا جماعة السّاحل ومدينة كلميم جنوبا ومدينة الاخصاص شرقا ويحدها من جهة الغرب المحيط الأطلسي، فإنك بالتأكيد في عاصمة الصبار بسيدي افني، حيث جبال مَكسُوة بثَروات طبيعيّة وزراعية أبرزها فاكهة الصبار.

وصلنا حاضرة “آيت باعمران” والشمس تميل إلى المغيب في خجل كأنها تستثقل الوداع، حمرتها الممزوجة ببقايا اصفرار خبا وهجه جعلها وكأنها تغرق مرغمة في عرض البحر. يممنا وجهنا شطر حي “بولعلام” لنقضي ليلتنا في ضيافة أحد أفراد عائلته، آوينا إلى الفراش بعد مأدبة عشاء حاتمية تلاها سمر ليلي جبنا من خلاله مع مضيفنا الطاعن في السن دروب تاريخ المنطقة وجغرافيتها.


موسى وعيسى .. حين يحرس الأنبياء فاكهة آيت باعمران

استيقظنا صباحا على صياح شجي لديك الجيران وهو يعلن ميلاد يوم جديد. وجدنا مائدة الفطور تنتظرنا مزهوة بأطباقها المتنوعة. تفقدت الشمس فوجدتها قد عادت إلى سابق وهجها ثم امتطينا السيارة التي انطلقت لتمخر بنا عباب الطريق. المسافة الفاصلة بين المدينة وجماعة “مستي” القروية تربو عن العشرين كيلومترا بقليل، لكن السيارة بدت وكأنها تلتهمها التهاما. وعلى طول الطريق لم يمل مرافقنا من سرد الكثير من التفاصيل الدقيقة حول نبتة الصبار بالمنطقة.

أخبرني مرافقي “اسي حســن” أن للصبار أسماء متعددة، بدءا بــ”الكرموس الهندي” مرورا بــ”التين الشوكي” وصولا إلى “أكناري”. غير أنها أسماء وإن تعدد فإنما لتخبرك أنك في حضرة نبتة فريدة تمكنت من اكتساب لقب “الذهب الأخضر” عن جدارة واستحقاق.

وبكثير من الاعتزاز أضاف “في منطقتنا يوجد نوعان رئيسيان من الصبار، يطلق على أحدهما اسم (عيسى) وعلى الثاني اسم (موسى)”، ليردف شارحا “الصنف الأول يثمر مبكرا ما بين يونيو وغشت، فيما يثمر الصنف الثاني متأخرا بعض الوقت وبالضبط نهاية شهر غشت”.

استمر صديقي في سرد ما بجعبته من معلومات ومعارف علمية حول هذه النبتة الفريدة، لكن أذناي ما انفكتا تسترجعان طنين تسميتي “موسى” و”عيسى”. تشير المراجع التاريخية إلى أن مصدر هذه الفاكهة لم يكن منطقة الشرق مهد الأنبياء والرسل، بل أمريكا اللاتينية التي انتقلت منها إلى أوروبا خلال القرن السادس عشر ومنها إلى شمال إفريقيا. فلماذا أطلق الأهالي إذن إسما هذين النبيين على فاكهتهم العريقة؟ مهما يكن من أمر سبب التسمية والتفسيرات التي قد يصوغها هذا أو ذاك، فالمؤكد أن صبار “آيت باعمران” في حراسة الأنبياء.

بوغابة… ملكية الصبار في مهب الريح

وصلنا مركز جماعة “مستي” ومنه اتجهنا نحو دوار “أمالو” حيث ينتظرنا “سي جامع”، ذلك الفلاح الستيني الذي ورث ضيعة تقليدية للصبار عن أبيه. استقبلنا مضيفنا بابتسامة ترحيب عريضة تعلو وجهه البرونزي الذي اصطلى بحرارة المنطقة اللافحة. الأخاديد والحفر التي رسمت طريقها على جبينه ووجنتيه تروي بدقة متناهية قصة كفاح هذا الرجل. اعتذرنا له في استحياء شديد عن تلبية طلبه بمرافقته إلى المنزل لشرب الشاي، فنحن بالكاد أنهينا فطورنا، ليقبل، أخيرا، وعلى مضض أن يصطحبنا إلى ضيعته.


نبتة “الصبار” العنيدة تملأ المكان في إباء وشموخ، شامخة هي شموخ قبائل آيت باعمران. تواجه قساوة الظروف الطبيعية من حرارة لاسعة وشح في الأمطار بنفس مقاوم وطويل كما قاوم أصحابها الاستعمار الإسباني. وبتنهيدة عميقة تلاها زفير خاطبنا “سي جامع” بالقول “ورثنا هذه الأرض المعطاءة عن أجدادنا، رعيناها وما أنبتت من صبار كما نرعى أبناءنا برفق وحنان، لكن الخوف يسكننا اليوم مما سيأتي وما تخبئه لنا الأيام”. سألناه باستغراب “ولم الخوف؟”. ومضت عيناه ومضة غريبة كأنها اغرورقت بالدموع قبل أن يجيبنا قائلا “نخشى أن يأتي يوم ننظر فيه إلى هذا الصبار كما تنظران إليه أنتما الآن، أقصد كغرباء”، هنا تدخل صديقي محمد مخاطبا إياي “إنه يقصد مصالح المياه والغابات التي ما انفكت تواصل مساعيها لانتزاع ملكية هذه الأراضي من ملاكها الأصليين وتحفيظها كملكية خاصة بها”.. قاطعه “سي جامع” مستنكرا “ومن أين لهم بهذه الأرض وصبارها؟ يطلبون منا الإدلاء بوثائق ملكيتنا للأرض، لماذا لا يدلون هم بوثائقهم؟ ألا يكفيهم أننا هنا ولدنا وولد أجدادنا حتى قبل تأسيس هذه الإدارات نفسها؟”. هنا ودعنا مضيفنا ولسان حاله ما انفك يواصل الاستنكار.



الكوشني: كابوس حشرة الكارمين المدمرة

واصلنا المسير نحو جماعة “اصبويا” على تخوم إقليم كلميم، جبال المنطقة الشاهدة على مقاومة الإستعمار تأوي بين ظهرانيها هكتارات شاسعة من نبتة الصبار الشاهدة بدورها على تاريخ المنطقة. وصلنا مركز الجماعة المسمى “ثلاثاء اصبويا” وكان اليوم يوم سوق أسبوعي. جحافل من الشاحنات القادمة من مختلف مناطق المغرب تدخل إلى المنطقة لتخرج منها أخرى وهي محملة بأطنان من فاكهة “أكناري”. الأثمنة غير مستقرة على حال، فتارة يقفز سعر الصندوق الواحد إلى 200 درهم فيما يهوي تارة أخرى إلى ما دون 30 درهما. هنا يحكم قانون السوق، قانون العرض والطلب.


توجهنا نحو دوار “إفيول” البعيد عن مركز الجماعة ببضع كيلومترات. أينما وليت وجهك على جنبات الطريق ترى حشودا من العمال والعاملات المنهمكين في قطف فاكهة “الكرموس الهندي” لملئ المئات من الصناديق التي تنتظر شحنها عبر شاحنات صغيرة وأخرى كبيرة نحو الأسواق الوطنية. توقفنا عند ضيعة “سي المعطي” الذي كان منهمكا بدوره في قطف ثمار ضيعته، استقبلنا بوجه بشوش ويداه متورمتان من فرط ما لذعتها أشواك الصبار التي لا ترحم. تجاذبنا أطراف الحديث و أسهبنا في الكلام عن هذه النعمة الطبيعية حتى سألناه عن المعيقات التي تقض مضجع المهنيين فأجاب بصوت مهموس يكاد يسمع، صوت تتخلله حشرجات ألم من واقع الحال وخوف من مستقبل يرفض أن يكشف عن ملامحه، فقال “كنا في السابق نخشى أن يختل ميزان العرض والطلب فتكسد بضاعتنا في الأسواق وتبور تجارتنا، لكننا اليوم أصبحنا نخشى الكوشني أكثر من أي شيء آخر”.

وأضاف “سي المعطي” – وهو يشير بأصبعه إلى أكوام ألواح صبار تحولت إلى ما يشبه العهن المنفوش – أن أكبر خطر يهدد فاكهة “التين الشوكي” ومعها مستقبل الآلاف من الأسر بالمنطقة هو حشرة الكوشني التي حلت بالمنطقة سنة 2018 وأفسدت خلال السنين الأخيرة آلاف الهكتارات.


حسب تقرير رسمي رفعه “المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية – أونسا” على موقعه الرسمي، فإن حشرة الكوشني أو الحشرة القرمزية القادمة من الغابات الإستوائية وشبه الإستوائية في أمريكا اللاتينية والتي ظهرت بالمغرب لأول مرة سنة 2014 هي “حشرة قشرية رخوة على شكل بيضوي، تظهر على نبات الصبار على شكل كومات بيضاء تشبه القطن بعد إفرازها لسائل الكارمين القرمزي، وتتحرك إلى حافة لوحة الصبار حيث يمسك الريح خيوط الشمع ويحملها من نبتة إلى أخرى”. وأضاف ذات التقرير أن هذه “الحشرات تعمل على امتصاص سوائل الصبار مما يؤدي إلى جفافه وموته”.



أرقام تبعث على التفاؤل

يقتضي القانون الطبيعي للأشياء أن لكل عملة وجهان، ولكل كأس جزءان. والوجه الآخر للعملة تنقلها لنا الأرقام الصادرة عن مصالح وزارة الفلاحة والتي تشير إلى أن المساحة المغطاة بنبتة “التين الشوكي” بمنطقة “آيت باعمران” تقدر بنحو 51 ألف هكتار، أي ما يشكل ثلث المساحة الإجمالية المزروعة وطنيا بهذه الفاكهة. حيث يساهم أكثر من 2700 فلاح محلي بإقليم سيدي إفني في إنتاج حوالي 50 في المائة من الناتج الوطني من فاكهة “الكرموس الهندي”. وذلك من خلال إنتاج نحو 300 ألف طن سنويا من هذه الفاكهة، يوجه نصفها نحو التسويق الوطني والدولي الذي يعود على المنطقة برقم معاملات سنوي يناهز 480 مليون درهم.

نفس الأرقام الصادرة عن مصالح وزارة الفلاحة تشير أيضا إلى أن عملية تهيئة وإنجاز ما يفوق 250 كلم من المسالك الطرقية بالجماعات التي تحتضن حقول الصبار بالإقليم، لا سيما جماعتي “اصبويا” و”مستي”، قد ساهمت في إنقاذ حوالي 40 في المئة من الإنتاج المحلي من الضياع الذي كان يلحقه بسبب صعوبة الولوج الى الضيعات. وتضيف ذات المصادر أن المنطقة تأوي أكثر من 80 تعاونية خاصة بإنتاج الصبار وتثمينه تعمل على تشغيل الآلاف من اليد العاملة التي يتجاوز وقعها الاقتصادي حدود إقليم سيدي افني إلى باقي ربوع المغرب.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة