إيدير الأمازيغي ابن الكون.

3 مايو 2020
إيدير الأمازيغي ابن الكون.
إيدير الأمازيغي ابن الكون.

بقلم عمر الراضي

حين قدمت عائلتي من الجزائر سنة1988 أحظرت معها ثقافة شعب بكامله . وحين بدأت أستوعب الأشياء من حولي وجدت إسم “إدير” يتردد في مسامعي….
ألهمني منذ سنة 2003 ،كنت حينها أتوفر على شريط صوتي مستطيل الشكل يحمل أغانيه . من بينها أغنية (أڤاڤا ينوڤا. أسندوغ . كفيغ. زويت ترويت…..) وغيرها من الروائع التي مازالت خالدة .
كم كانت أغانيه حلوة وأنا أستمتع بها كل ليلة ، عبر مسجلة سوداء اللون يسكنها صرصور صغير.
لم أكن أفهم مالذي يقوله إيدير لكنني وأنا ابن الثالتة عشرة من عمري كنت أحس بما ينشره هذا الرجل …
ألصق أذني في مكبر صوت محمي بشبكة معدنية باردة ، لألتقط تلك الكلمات الرنانة.
صدقا كنت أسافر لأعالي تلك الجبال ، أغمض عيناي …..
وحين أحرر رموشي أجدني في سنة أخرى متقدمة عدديا عن التي تلتها.
فمهت أن الجبال جبال (جورجورة )بقلب الجزائر وأن الذي غنى انبثق من بين ثنايا قمم بيضاء ، يحمل ثقافة شعب أمازيغي حر ، شعاره الحب، لذلك يتعايش . مبدؤه البساطة والتواضع معتبرا وجوده قطعة من قطع فسيفساء هذا العالم المليئ بثقافات أخرى عريقة .
ولعل أغنية (تيزي وزو) خير دليل .
إيدير فنان ليس لأنه يجيد العزف والغناء فحسب بل وقبل هذا هو فنان لتواضعه وبساطته واحترامه لأعراق أخرى ، يؤمن بالإختلاف والتعايش والسلم والسلام لذالك عبر بالحب عن كل هذا ، فكان الفن الملتزم الراقي خير وسيلة ليوصل عمق القبائل أو (لقبايل) لأبعد الحدود.
إيدير أدرك أن حقيقة الفن، فغنى رفقة فنانين كبار من بينهم (أمازيغ كاتيب) مؤسس مجموعة (gnawa diffusion ) والمغنية الراقية (zahao ) والمغني العالمي الثائر (manu Chao ) …..غنى رفقة مغني الراي (مامي) والمغنية الرقيقة (سعاد ماسي) والقائمة طويلة، اختلفت فيها أسماء المغنيين مع اختلاف مشاربهم وهوياتهم لكنهم اجتمعوا على عبارة واحدة (كلنا من أصل واحد وحناجرنا ماهي سوى علب سحرية تنثر نجوما في السماء لتكتب في الأخير لحن الروح الواحدة والمصير الواحد المشترك.)
أنشدوا للأرض للثورة لمن أخذ الثروة للظلم أينما وجد…. للنبات للحيوان لنملة تمشي تحت شعاع الشمس وأم تحرك المهد بصغيرها في هدوء ليل قارس….

عاشت الجزائر عشرية سوداء كلها ألم ودم ينزف في المدن والمداشر ، ولم يبخل حفيد (لالة نسومر ) عن وطنه شيئا .
مازلت أحتفظ بوجه هذا الفنان في ذاكرتي ، وهو يغني مقطوعته الجميلة معية الكبار .
لقد إجتمعوا ليغنوا (الجزائر حبيبتي) .

في يوم من الأيام تمزق الشريط الصوتي ، لم أفهم ماذا حصل فقد توقف إيدير عن الغناء ولم يعد يصلني صوته عبر المكبر . فتحت باب المسجلة لأجد أن عجلة صغيرة مطاطية رفعت لفافة الشريط ولم تعد تلك القطعة المكعبة تقرأ خطوط التسجيل .
رأيت الصرصور الوغد وقد هرب إلى جوف الآلة.

أخرجت اللفافة ومزقت منها سنتيمات، جمعت الرؤس باللصاق ثم بواسطة قلم أدرت القرص فعادت أحشاء الشريط لمكانها الأول.
لهفة وشغف بريئين . أنامل ترتعش وضعت بها الشريط داخل المسجلة ، إنتظرت قليلا ثم ………

هاهو إيدير يغني أغنيته الأخيرة والتي كانت مرفوعة الإيقاع….. مزمار وطبل وكلمات عريقة…….
فجأة سمعت طرطقة زر التشغيل.
إنتهى الشريط ، أعرف أن اللفافة تجاوزت مرحلة اللون البني والآن هي في حافة البياض.
لابأس غدا سأقلب الشريط للجهة الأخرى.

البارحة عرفته رحل عن هذا العالم نهائيا، محزن هذا.
لكن المفرح أن أشرطته توجد في بيوت عشاقه الآن…أما إسمه فقد إنتقل من الثقافي المحاصر إلى الكوني الرفراف. ……وماذا عن الحب.؟؟
سيستمر.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة