حماقة شتاء أخضر

30 أبريل 2020
حماقة شتاء أخضر

تتابع وباهتمام شديد مسلسل يوسف الصديق الذي يعرض للمرة السادسة على التوالي، ودونما كلل حفظت مضمون حلقاته بحركات وسكنات ممثليه،كأنها تفك شيفرة لغة تألف سماعها، فهي لا تفقه قولهم شيئا غير مشاهد ذات طابع تاريخي لنبي، ينبغي لها أن تركز جيدا دون مقاطعتها،تسللتُ كأنها لم تنتبه لوجودي بين ذراعيها وحضنها الدافىء لتأخذ تلقائيا خصلات شعري وتعبث بها في شرود تام ،تدثرت جيدا من ملاءتها الدافئة يلفها ريح الزعفران ،إنها الأصل انها الارض، قمت بتشتيت انتباهها بحركاتي فتساءلت لم يظهرون صورة النبي ولا يضعون وميضا على وجهه كما فيلم الرسالة،شرحت لها أن المسلسل إيراني شيعي وأن ثقافتهم الشيعية لا تواجه مشكلة في عرض صور المعصومين الأنبياء،كما تعتبر تقديمها الوجوه بتلك الصورة الجميلة قدوة للمجتمعات..ساد صمت يقطعه تدليك رأسي يتناهى إلى المسمع كصوت الخشخشة..أنهت مسلسلها الذي لا تملّه..وكعادتها رددت موالا مخضرما عن الحب.
رمضان بالحجر الصحي شيء من التضاد..(فرانك اوزوكني أرياكا توجوت إتناريوين)..قاطع الصمت هذه العبارة..ما قصد جدتي بعبارتها هذه، فرنك من ورق الزعتر يمكن أن يعطر كل الصحراء..فاسترسلت حديثها وهي تداعب خصلاتي،هذا يا ابنتي مثل شائع تم تداوله عندما استشرى شيطان الجوع، كان الأغنياء يلتقطون صورا لأنفسهم وهم يحتسون كؤوس الشاي المعطر بورق الزعتر وكأنها سهام النصر بعد حرب وضعت للتو أوزارها.
كان المستعمر يحاول جاهدا إخفاء المعطيات الحقيقية للمرض والوباء والوفيات،فالإحصاءات كانت فقط تركز على المدن بيد أن ما يقع في القرى النائية كان فظيعا جدا، حيث الناس التي لم تدخر لسنوات العجاف باتت تموت جوعا،كان العام فيلا ومن أصعب السنوات لحدة الأوبئة والأمراض والجوع والوفيات،فقد روي عن أحد الأشخاص أنه كان جالسا قرب أخيه الذي ما فتئ أن انقض عليه كلب فقضم أذنه،من كثرة الهون والهزال لم يقو على رد أذن أخيه.
بدا شهر ديسمبر حارا،شديد البؤس،انعدام القوت وما يسكت غرغرة عنق المعدة،جعل المغاربة يتجهون نحو ما سمي بالتعويض في الأرض باكل الأعشاب، ،وإقبالهم على (الكرنينة)نوع من النبات البري وحفر جذور نباتات تسمى ب(إيرني) يتم غسلها وتجفيفها تحت الشمس،ثم طحنها لاستخراج نوع من الطحين الذي يتم عجنه وطبخه وعرضه في الأسواق، إلا أن هذا النوع من الخبز يترك أثرا مؤلما يسبب الإسهال الحاد، بالرغم من هذا كانت هذه المضاعفات أهون بكثير من بطش الجوع الذي أضنى أجساد المغاربة.

الأطلس المتوسط كان الجراد ملك الوجبات وسيد جوف الأطباق،أما الشرق ابتكروا نوعا من الطحين يصنع به الخبز أساسه جذور نبات مجفف،وأما في منطقتنا كان صيد القنافذ والطيور والحيوانات البرية والسباع والجراد،أما في الغرب فكانوا يعتمدون عسقل التلغودة و الترفاس، هذا الأخير الذي يلتقطه المغاربة في الخفاء على اعتبار فرض عقوبات زجرية من قبل الحماية الفرنسية على ملتقطيه.
كانت فرنسا تسوق لنفسها صورة الأسطورة والسوبرمان المنقذ من الفقر وإخفاء مظاهر معالم المجاعة ومظاهرها في المغرب، وأنها تستطيع مقاومة حرب الهلاك،هذا لم يمنع فرنسا من جمع التبرعات ما شكل ثقلا على كاهل المغاربة التجار منهم والحرفيين، لهزالة رواتبهم التي لا تكفي البتة شراء ما يقيم رمقهم ويسد حاجاتهم.
بالرغم من سخط السنة العجفاء، فقد كنا كفلاحين مطالبين بتأدية حماقة ضريبة “الترتيب” على المواشي والزراعات.
وذات مرة سمعنا على الراديو كيف أن كارثة المجاعة والجفاف لم تمنع قائد منطقة وسط المغرب من تقديم مليون فرنك لمساعدة فرنسا لتجاوز الأزمة.
اختتمت جدتي جلستنا بمقولة لمايسترو تاروايْست الرايس الحاج بلعيد:
“زنزان ميدن أيادا نسن أد زنزغ وينو ” : “باع الناس ما يملكون سأبيع ما أملك”

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة