
محمد أنفلوس
مع نهاية كل سنة يمطرك اصدقائك و اقاربك بهذه الجملة الضاحكة (سنة سعيدة ) !! خفيفو الظل منهم ينتظرون الساعة الثانية عشر تماما لبعث رسائلهم اليك عبر هاتفك المحمول و المشاغبون يوقظونك في منتصف الليل بمكالمة صاخبة لكنها دافئة، اماالذين نفدت تعبئة هواتفهم فانهم يتذكرونك بقلوبهم البيضاء التي لا ينفذ رصيدها المجاني ابدا..
قبل ان تغادر منزلك ،في صباح اليوم التالي تحملق كثيرا في المرآة وأنت تغسل أسنانك أوتصفف ما تبقى من شعرك
أحقا كبرت إلى هذا الحد؟!
أمس الأول كنت تلميذا فى المرحلة الابتدائية! أرتب الحروف وأحسب الخشيبات و أرسم منزلا بنافذتين .. أمس فقط قمت باول مغامرة في حياتي حين تسلقت سور المدرسة انا وصديقي وارتفعت ضحكاتنا الطفولية حين خرجنا الى الشارع الرحب بعدماأدركنا أن مغامرتنا نجحت دون عقاب
بالامس فقط كانت الأشجار صغيرة، والقامات قصيرة، والقلوب غريرة ..بالامس فقط كانت الملامح ذات عذوبة والعيون تترقرق بالطيبة ،لم أتخيل أننى سأكبر كالآخرين، أو تعرف التجاعيد طريقها لوجهى، أو يتسلل الى شعرى بعض البياض وبعض الصلع..
لا أدري كم هو عدد السنين والأشياء التي ندمت عليها. لكن أكثر ما ندمت عليه هو مرور الوقت بسرعة بالكاد تكفي لاعادة ترميم الذات الآيلة للسقوط .
أذكر فى طفولتى أن النهار كان طويلا، ويتسع لعشرات الأشياء، للعب و الجري و النوم و الاكل ومشاهدة الرسوم المتحركة ورسم الاشجار الغير متحركة..
لكنني لا اخفيك قارئي العزيز انني فى هذه الأعوام التي مضت ،تعلمت أشياء كثيرة: أدركت أن أجسادنا تكبرلكن ارواحنا لا تكبر، تبقى دائماعصية على الخدش، ممتنعة عن الزمن ،غضة ،طرية دون تجعيدة واحدة.. ادركت ايضا أن كل يوم أضعته فى غير الفرح هو يوم مسروق من عمرى..
ادركت أن الفرق بين الناس أقل مما كنت أتخيل، فلذة طاجين مصنوع بإتقان هى نفس لذة المآدب الملكية. فالأشياء النفيسة يتشارك فيها الجميع مجانا ، لأنها أغلى من أن تُباع أو تشترى، كالهواء والشمس والحب واقواس قزح..
لذلك قررت هذه السنة ان احصي كل المعجزات التي حدثت لي في حياتي ومازالت تحدث : نجحت وتخرجت دون أن أتعلم كثيرا، أقبض مرتبا دون أن يتصبب جبيني عرقا مريرا، أنفق أكثر مما أكسب ولازلت لا اعرف كيف ؟
تزوجت و انجبت ولازلت اسافر كل صيف لقضاء شهر العسل مع زوجتي، لطفلتي ثمان سنوات ولازلت اتابع معها توم و جيري بنفس الشغف الطفولي ،لازلت احتفظ بسماعة طبيب واكشف علي كل من أحبهم دون مقابل وأطمئنهم أنهم بخير
لازلت واثقًا بالنهايات السعيدة في حكايات جدتي،اتابع الاخبارعلى شاشة التلفاز وانا مدرك ان خلف كل حدث ليلى وذئب وجدة مسكينة ،لازلت أشاهد صوري القديمة وأنا طفل فأتاكد كل يوم كم كنت غبيا كالعادة وأنا استعجل مرور الأيام لاصبح كبيرا..
لازلت احتفظ في جيبي على قطع حلوى اوزع نصفها على اطفال الجيران واكل نصفها خفية بشراهة كبيرة..
لازلت ،قدر الامكان، أحاول أن أشعر الآخرين أنني اقدر جهودهم فاساعد عمال البلدية في تفريغ قمامتي و أحاول أن أملأ حياتي بالمفاجآت فاندهش امام كل ما يلمس القلب على هذه الأرض:قطعة موسيقية بديعة،بيت شعري رائع،هدف كروي مذهل،ابتسامة عجوز متعب،دعاء ام حنون،تنهيدة عاشق مجنون،اشراقة شمس دافئة،ارتجافة حقل اخضر،رفة فراشة ذهبية،قطة تتمطى في كسل…..
حين انفجر بداخلي ذات ليلة ، بركان الاسئلة وجدت شيخا عارفا بالله همس في اذني قائلا من فاته الله فاته كل شئ و من فاته الله فلاحد لحسرته ومنذ ذلك الحين بدأت أنفذ إلى عمق الأشياء
اصبحت أرى الكون بعين أخرى. يا إلهى كم هو كون رائع وبديع!هائل الاتساع،بديع التنسيق،لامتناه و متسام الى ابعد افق جميل حدا،رائع بقدرعظمة خالقه ولاول مرة أعرف نعمة التأمل. وأدرك أن السؤال هو المهم وليست الإجابة وان تسلق الجبل اهم من الوصول الى القمةوان لكل انسان طريقه الخاص الى ربه..
وفهمت أن الله هو الموجود الحقيقى، وما هذا الكون إلا شاهد على وجوده. ففرحت بأنه موجود، ورضيت بأن أكون من شهوده.
من كتاب الريح والزعتر