د. سويلام بوغدا ، أستاذ التاريخ بجامعة ابن زهر.أحد أبناء جهة كلميم واد نون .حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر، مهتم بتاريخ الجنوب المغربي والصحراء ، عضو فريق « المغرب وبلدان الساحل والصحراء:تاريخ وتراث »، وعضو ومؤسس للمرصد الوطني للتراث الثقافي
في هذا الحوار مع نون بوست نقترب مع د. سويلام بوغدا من ارث ثقافي كبير تتوفر عليه جهة واد نون خصوصا والجنوب عموما ونسائل أهل الاختصاص عن سبل تثمين هذا الرأسمال وماهي أهم اكراهات وتطلعات باحث في التاريخ من قيمة الدكتور سويلام
حاوره محمد أنفلوس
السؤال الأول
لا شك ان جهة كلميم واد نون غنية من حيث مصادرها التاريخية الصامتة والمتكلمة والمكتوبة ولكن نرى نقصا حادا في عدد المهتمين والمشتغلين على هذا الثراث الجهوي ما هي الاسباب في نظرك؟
إن أهم ما يميز جهة كلميم واد نون هو غنى تراثها العريق. والتراث في مفهومه الشامل هو كل ما خلفه الإنسان سواء كان ماديا أو لا ماديا أو معنويا. ولا زال هذا التراث موجودا ومتداولا لكن بأشكال ورأى مختلفة. وتزخر جهة كلميم واد نون بأنواع مختلفة وفيفساء غنية من هذا التراث. فمجال واد نون احتضن ثقافات وحضارات وشعوب وقبائل متنوعة ومختلفة الأعراق واللغات والثقافات. وهنا تكمن أهمية وغنى التراث الثقافي والتاريخي والاجتماعي بالمجال. ونظرا لأهمية هذا التراث بمجال واد نون والذي يشكل هويته الحضارية والثقافية والاجتماعية؛وهو ما يميزه عن باقي المناطق الجغرافية الأخرى داخل مجال المغرب، فإن هذا الموروث يحتاج إلى الدراسات العميقة التي تستند إلى الأسس العلمية بالدرجة الأولى. في هذا الصدد فإن المؤسسات الجامعية والمختبرات العلمية التابعة لها والأساتذة والطلبة الباحثين وجمعيات المجتمع المدني ومختلف مراكز البحث بالمجال هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن البحث في هذا التراث والتعريف به وصيانته وحفظه. لكن هذه المقاربة يجب أن تتم وفق برامج طويلة الأمد تسخر لها الشروط العلمية والقانونية والمادية واللوجستيكية. الأمر الثاني أن تكون هذه المقاربة مقرونة برغبة المؤسسات غير التعليمية والعلمية الانخراط في هذا المشروع. ومنها على سبيل المثال المجالس المحلية والجهوية والإقليمية. وبهذا الشكل يمكن إعادة الاعتبار لهذا التراث الثقافي العميق والعريق لمجال جهة كلميم واد نون. لكن الإشكال الكبير يكمن في الانقطاع الحاصل بين هذا التراث والجيل الحالي من المثقفين وغير المثقفين الذين لا يعرفون من هذا التراث إلا ما تعلق بشقه الفلكلوري التنشيطي. لهذا وجب الانفتاح على المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها والمدارس الابتدائية من أجل التعريف بهذا التراث بالمجال وتحفيز المتعلمين والمتعلمات على فهم أعمق لتاريخهم وهويتهم الثقافية وتدريبهم وتربيتهم على سبل المحافظة عليه واستثماره في كل مناحي الحياة العلمية والعملية. وبهذه الطريقة يمكن رد الاعتبار لهذا الموروث الثقافي بجهة كلميم واد نون وصيانته واستثماره. كما أنه يجب أن تكون من أولويات المشتغلين والمنشغلين بهذا التراث التعريف به وتسويقه على الصعيد الوطني والدولي ولكن بشكل علمي يعكس حقيقة تاريخ مجال واد نون وأصالته وعراقته.
أصدرت مؤسسة اسا الزاك للتنمية والفكر والثقافة كتابا جديدا هو ثمرة ندوة علمية شاركتم فيها على هامش الموسم الديني السنوي لاسا ما هي في نظركم القيمة العلمية لمثل هذه المؤلفات ؟
الكتاب الجماعي الذي أصدرته مؤسسة أسا الزاك للتنمية والفكر والثقافة تحت عنوان “المدن العتيقة مقاربة في أصول العمارة والبنيان ومعالم التراث الروحي والثقافي والفكري لمدن أسا وشنقيط وودان” يدخل ضمن المشاريع العلمية التي تحاول إعادة قراءة وكتابة التاريخ المشترك بين الجنوب المغربي وبلاد شنقيط ودول افريقيا جنوب الصحراء بشكل عام. فالتاريخ المشترك بين هذه المجالات الجغرافية يعكس إلى حد كبير التنوع الثقافي والحضاري والاجتماعي التي تزخر به هذه المجالات. ومن ثم محاولة الباحثين الاهتمام بهذا التاريخ المشترك في أفق استثماره على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما أن هذا العمل الجماعي الذي شارك فيه أساتذة باحثون من المغرب -جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية باكادير – ودولة موريتانيا الشقيقة -جامعة نواكشوط – يشكل لبنة أخرى من لبنات الصرح العلمي الذي دأب أساتذة شعبة التاريخ بجامعة ابن زهر على النهوض به وترسيخ قيمه العلمية بالشراكة مع مختلف الجهات المعنية بهذا التاريخ والتراث الثقافي المشترك بين الجنوب المغربي وبلاد شنقيط
كما أن هذا الكتاب الجماعي الذي يضم بين دفتيه خمس مقالات بحث أصحابها في عمق التاريخ المشترك بين الجنوب المغربي وبلاد شنقيط يشكل مرجعا إضافيا في الحقل التاريخي يغني الخزانة الوطنية والمحلية بمعلومات هامة وحقائق تاريخية عن تاريخ الجنوب المغربي والصحراء. كما أنه يعتبر مرجعا هاما للأستاذة والطلبة الباحثين وغيرهم من المهتمين بالحقل التاريخي. لكن الأهم في هذا العمل هو اهتمام جمعيات المجتمع المدني ومراكز البحث المحلية والجهوية بالحقل التاريخي لما له من أهمية كبيرة في ترسيخ وحفظ الذاكرة وتدوين تاريخ الأجداد وتلقينه للأجيال القادمة. كما أن هذا المشروع يجسد رغبة الآخر خارج أسوار الجامعة في الانخراط في المشاريع العلمية، وهي خطوة محمودة خصوصا مع تزايد ولوج أبناء الجنوب المغربي المؤسسات الجامعية خصوصا شعبة التاريخ والحضارة. لذلك يجب تثمين هذه التقاليد العلمية وتشجيعها سواء من طرف الباحثين أو من طرف المجالس المحلية والإقليمية والجهوية. وهنا ينطبق المثل العربي القائل : “ما حك جلدك مثل ضفرك “.
تنظم ندوات علمية كثيرة في الجهة ولكنها لا تتوج بكتاب من هذا القبيل ما هي اهم اكراهات تحقيق ذلك؟
صحيح أن العديد من الندوات والمحاضرات والمؤتمرات العلمية عرفتها جهة كلميم واد نون منذ فترة زمنية طويلة. لكن وللأسف الشديد لا تتوج مثل هذه اللقاءات العلمية بإصدارات تتضمن محاور ونتائج تلك المجهودات التي بدلها ويبدلها الأستاذة الباحثون والمهتمون. بالتالي تفوت الفرص الثمينة في إغناء الخزانة الوطنية والمحلية بمثل هذه الانتاجات المعرفية والعلمية. وإذا بحثنا في أسباب ذلك نجد أن هناك عوامل متعددة ساهمت في عدم تتويج تلك الملتقيات العلمية بإصدارات علمية. منها على سبيل المثال عدم وعي المجالس المعنية بالقيمة العلمية لتلك الإصدارات؛ رغم وجود الإمكانيات المادية واللوجستيكية للقيام بذلك. والأجدر بمختلف المجالس المحلية والجهوية والإقليمية بمجال الجنوب المغربي تخصيص جزء من ميزانياتها لتنظيم الندوات والمؤتمرات ونشر أعمالها في كتب تكون في متناول الباحثين والمهتمين على الصعيد الوطني والدولي. فعلى سبيل المثال تم إرسال ما يزيد عن 500 نسخة من الكتاب الجماعي الذي تكفلت مؤسسة أسا الزاك للتنمية والفكر والثقافة بنشره في إطار التعريف بالتاريخ المشترك بين الجنوب المغربي وبلاد شنقيط إلى دولة موريتانيا. ولا شك أن هذه الخطوة سيكون لها وقع كبير في أوساط الباحثين والطلبة داخل القطر الموريتاني فضلا عن المغرب بشكل عام والجنوب المغربي بشكل خاص. الإشكال الثاني عدم وجود استراتيجية وطنية وجهوية للنهوض وتطوير البرامج العلمية في مختلف الحقول المعرفية تشترك في أطراف متعددة وعلى رأسها الوزارة المعنية بالحقل العلمي والمؤسسات الجامعية والمجالس المنتخبة والباحثين وكل الغيورين على تاريخ المغرب بشكل عام وتاريخ الجنوب المغربي بشكل خاص. في هذا الإطار نحيي ونثمن مجهودات جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية باكادير ومختلف المجالس المنتخبة بالجنوب المغربي على ما يبذلونه من مجهودات جبارة وقيمة في سبل الارتقاء بالشأن العلمي موازاة مع مشاريع التنمية المحلية والبشرية التي انخرطوا فيها بشكل كبير قل نظيره في بعض المناطق بالمغرب. ومن هذا المنبر نناشد المجالس المنتخبة الاهتمام بالاصدارات العلمية وان تتوج كل ندوة أو لقاء علمي بكتاب جماعي أو فردي كي يبقى ذاكرة حية للأجيال القادمة.
شاركتم في ندوات علمية بخصوص انتفاضة ايت باعمران بسيدي افني ونحن مقبلون على تخليد نفس الذكرى ما هي في نظركم اهم عناصر قوة انتفاضة ايت باعمران في بعدها الوطني؟
استمدت انتفاضة أيت باعمران قوتها من ثلاث عناصر أساسية ومترابطة. العنصر الأول يتجلى في الوازع الديني الذي تشبعت به قبائل أيت باعمران والذي فرض عليها مقاومة الدخيل المحتل لأرضها بدون موجب حق ومحاربة أجنبي يستغل خيرات المجال ويقطع أوصال الأسر والقبائل ويدمر مقومات المكون العمراني داخل مجاله الحيوي وخارجه. فتعاليم الدين الإسلامي الحنيف من خلال المدارس القرآنية والعتيقة ومن خلال علماء مجال أيت باعمران الذين كانوا يغدون المجاهدين الباعمرانيين بالأفكار الجهادية ضد المحتل ساهم بشكل كبير في تنمية الفكر الجهادي ضد المحتل الإسباني والفرنسي على حد سواء. فالعمليات الجهادية لقبائل أيت باعمران كانت داخل مجالهم الحيوي وخارجه وهو ما أشارت إليه العديد من تقارير ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين. العنصر الثاني تجلى في البعد المجالي حيث ارتباط أيت باعمران بأرض أجدادهم وهو ما حفز لديهم وفيهم روح المقاومة حفاظا على محيطهم القبلي والمجالي ونمط عيشهم وتفكيرهم على اعتبار أنهم وحدة قبلية واجتماعية متماسكة. وسيفهم لاحقا عدم هجرة الباعمرانيين إلى مجالات أخرى هروبا من المستعمر الإسباني أو تجنيسهم كلية رضوخا للأمر الواقع. فالأرض عند الباعمرانيين مقدسة قداسة المكون الديني والأسري. ومن نتائج دفاع أيت باعمران عن أرضهم أن القوات الفرنسية اتخذت جميع التدابير اللازمة ومنها عقد اتفاقيات سرية مع الإسبان تم بموجبها الاتفاق على حصر انتفاضة أيت باعمران داخل مجالهم الجغرافي حتى لا تتسرب أفكارها وخططها إلى القبائل المجاورة. العنصر الثالث يتمثل في البعد الوطني وتمسك أيت باعمران بانتمائهم إلى الوطن ذو البعدين العربي القومي والامازيغي المحلي. ومن ثم فإن المقاومة في أيت باعمران استمدت قوتها من أفكار الحركات التحررية في كل من أفريقيا والعالم العربي وأفكار المقاومة المحلية داخل مناطق المغرب. لذا يجب التفريق هنا بين فكر المقاومة وامتداداتها وبين فعل المقاومة في بعدها المجالي المرتبط بأيت باعمران. وهذه العناصر الثلاثة شكلت القاعدة الأساسية التي غدت انتفاضة أيت باعمران على المستوى السياسي والعسكري والاجتماعي.
الى أي حد تسهم هذه اللقاءات في إعادة الاعتبار الذاكرة الفردية والجماعية للمجال من جهة وتسهم في إعادة الكتابة التاريخية والسياسية والاجتماعية؟
تعتبر اللقاءات والندوات والمؤتمرات العلمية خارج أسوار الجامعات والمعاهد واجهة أخرى لقراءة تاريخ المجال والقبائل والنبش في التراث المادي واللامادي الذي تزخر به مناطق الجنوب المغربي والصحراء على وجه التحديد. وهي فرصة أيضا يكون اللقاء فيها مفتوحا ومشتركا بين الباحثين والمهتمين وعموم الناس. ومن تم يتم تبادل الخبرات والأفكار بين الباحثين ومختلف المتلقين لهذه المعرفة. وبهذا الشكل يتم رد الاعتبار للذاكرة الفردية والجماعية للأشخاص والمجموعات البشرية التي كانت فاعلة في صنع الأحداث التاريخية والإجتماعية في مجال معين. ويتم الإحساس بمثل هذه المشاعر حين تكون اللقاءات العلمية في مناسبات وطنية أو جهوية أو محلية صنع أفرادها مختلف أحداثه ذات البعد التاريخي والاجتماعي والثقافي أو الاقتصادي. لذلك فهي فرصة تتجدد فيه الذاكرة الفردية والجماعية حتى لا يطالها النسيان، وهي فرصة للباحثين والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين لإعادة التفكير في أبعاد ما خلفه الأجداد من مواقف نضالية وطنية شكلت مادة تاريخية للباحثين للاشتغال عليها في الحقل التاريخي على وجه التحديد. ومن ثم محاولة إعادة كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي للمجال والقبائل. ونستحضر هنا اللقاءات العلمية التي يحتضنها مجال أيت باعمران بسيدي إفني كل موسم بمناسبة انتفاضة أيت باعمران ضد الاحتلال الإسباني وفي مختلف المناسبات الوطنية. وتنم هذه اللقاءات عن وعي ونضج المنتخبين والفاعلين الاجتماعيين وهيئات المجتمع المدني بمجال أيت باعمران بأهمية تاريخهم وأهمية مجالهم ومواقفهم التاريخية التي باتت محور البحث الأكاديمي والندوات والمؤتمرات العلمية سواء داخل مجال أيت باعمران أو خارجه. ونتمنى أن تتوج مثل هذه اللقاءات بإصدارات علمية تعكس حقيقة التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لأيت باعمران.
الترويج والدعاية لجامعة ابن زهر وأساتذتها الذين لم ظلوا موالين الظهر والاهتمام لتاريخ الصحراء عامة وتراث جهة وادي نون منذ تأسيسها عام 1986 حتى اليوم، وحين ظهرت بها نخبة مثقفة ومتكونة واصدارات حول المنطقة سارعت جامعة ابن زهر واساتذتها الى استدراك هذا القصور والغياب في وقت متأخر جدا… وصاحب الاستجواب الملتحق بهيأتها التدريسية مؤخرا يحاول تستطيع الضوء والترويج لاهتمامها المعدوم اتجاه هذا المجال وتراثه الذي لا يعرفه ويفهمه…