
زين العابدين الكنتاوي
أسوأ مافي الزواج الوحمُ، فضلا عن بعض التفاصيل الأخرى.. الوحمُ وِزرٌ وحَرٌّ ومرارة..
وهذي “لطيفة” وهي تتوحّمُ أشبهُ ببُركان متفجرّ تسيلُ لاڤَتُهُ الحاميّة حَوالي فُوّهته فتهلك الحرث والنسل وتشتهي ما لايُشتهى!
تعودُ بي الذكرى في كل دقيِقة إلى الماضي حين كنتُ مراهقا نزِقا يتشجار في كل لحظة مع أخته الكبرى الحامل، وتتحول الأم إلى قاضٍ يفضّ النزاعات المتكررة، فيصرخ علنا في وجه الأخت وسِرا يهمس بتأنيبٍ للولد المدلّل بضرورة مراعاة حالة الأخت وأنها “تتوحّم” وأن النساء في وحمهِنّ يكرَهنَ أهلهنّ وأبناءهنّ بل وأزواجهنّ!
– حتى أزواجهنَّ؟!
– نعم، حتى أزواجهنّ! (تجيبُ أمّي)…
الآن فقط، استطعت أن أفهم كم كنتُ شقِيّا في مراهقتي، وكم هي شقيّةٌ “لطيفة” اليوم!
تتكسّر أمام جدار الوحمِ كلّ الأحلام الورديّة الزرقاء، تحترقُ فراشات الآمال الجميلة، وتتلاشى غُيوم المساءات البهيّة، تلك المساءات التي كنت أخطو فيها مع “لطيفة” على الرصيف ونحنُ نحدّقُ في سماء الغروب بكثير من الحبّ والخيال والقبلات!
مشهد القَيء الذي كان يثيرُ قرفي بشدّة، ويجعلني أبصقُ باشمئزاز متشجنّج، أصبحتُ أتحمّل صوته الآن بهدوء تام، ومابين كلّ نوبةِ قَيء وقيء، أنتظرُ سماع “لطيفة” وهي تزمُّ فمها بيدها، قبل أن تهوي: ( أععععععع)!
ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حَجرٌ بارد تتكسّر عليه كل المناغِص، ولا أطيب من ذلك لول كان الحبّ يستمرّ دون بطونٍ وبلا شحوبِ وضمور وقيء، أو في أقلّ تقدير لو أن الأمومة تتحقّق دون هذه المتاعب كلّها، لكن : الحمد لله على كلّ حال.
أما حكايات “لطيفة” مع الوحمِ، أو بالأحرى حكاياتي أنا مع وحمِ “لطيفة”، فما تكاد تنتهي حتى تبدأ.. والأزمة النفسية التي أعيشها اليوم، تضاعفُ تلك التي عشتها في بداية هذا “الزواج/المشكلة”!
تشتهي “لطيفة” أشياءَ لاتخطرُ على بال، وفي أوقاتٍ لايمكِنُ تصوّرها مطلقا، مما يجعلني أعيش لحظات اندهاشٍ متكرّرة أحاول من خلالها التأكد من كون ما أعيشه أ هو حقيقة أم وهم؟!
اشتهت زوجي التُرَابَ مرّات، وياما أخذتها إلى الربوة القريبة، وأشرتُا لها أن تجلس في المكان إياه، لتكون أوّل كلمة أنطق بها منذ خروجنا من البيتِ: “هيّا كُلِي.. كُلِي التّراب.. كلِي الترابَ يالطيفة”! تبُاشِرُ سفّ الترابِ بينما أقفُ حارِساً للمشهد الأفظع عبرِ التاريخ !
وقبل التراب وبعده ومَعه، اشتهتَ “لطيفة” اشتمام رائحة البنزين ورائحة السَجائر وعبَقَ الحبقِ، وكذا النّقانِق والحلزون المسلوق والبطاطس المدفونة في الرّمادِ، وكبد الدجاج وذيل سمكة “الكوربين” المقليّة المملّحة والعجبَ في رجب…
في عزوبيّتي كنتُ أستحمّ مرّة في الأسبوع، في بداية الارتباط، مرّة في اليوم، اليوم في ظلّ وحمها، أستحمّ في كلّ لحظة تشتكي فيها “لطيفة” من رائحة تعرّقي الموهوم، وبلا مُوجِبٍ يُذكر!
قبل ساعة أخذتها لبيت أهلها بعد أن تعِبتُ وطلبت هي ذلك، تعِبتُ تعب العجائز الوقورين، تتصلّ تِباعا قبل نصف ساعة.. أتجاهل الرّد، ترسل رسالة قصيرة:
” تعالى خدني لبيتنا.. لن أبقى هنا”!
يا إلهي، أيّ ولد شقِيٍّ ستلِده “لطيفة” لي بعد كلّ هذا الذي وقع و سيقع!