عندما يرهق “الفرح” الجيوب ويشوه القيم: قراءة في سوسيولوجيا التباهي بالمناسبات الصحراوية

3 أغسطس 2025
عندما يرهق “الفرح” الجيوب ويشوه القيم: قراءة في سوسيولوجيا التباهي بالمناسبات الصحراوية

نون بوست                                              علي الكوري 

بدأت ملامح التحول الاجتماعي في الأقاليم الجنوبية تظهر بوضوح، خصوصا في ما يتعلق بعادات تنظيم المناسبات، التي انتقلت من البساطة والاحتفاء الجماعي إلى منطق التنافس الاجتماعي المُتعِب. فالفرح، الذي كان بالأمس احتفاء بالحدث، صار اليوم سباقا نحو الظهور، والتباهي، والإسراف، مهما كان الثمن.

تؤكد الدكتورة فاطمة الزهراء المالكي في إحدى دراساتها حول “تحولات البنية الاجتماعية بالصحراء” أن الموروث الاحتفالي عرف اختلالا في معاييره بسبب موجة “التمثلات الجديدة للنجاح الاجتماعي”، حيث أصبح البعض يقيس قيمته بمدى بروز خيمته وعدد المدعوين ونوع الذبائح. وهي تحوّلات تضعف الصلة بين الثقافة الأصيلة ومتطلبات العصر.

يرى الباحث عبد الله الرامي في كتابه حول “الهوية والذاكرة الجماعية في الصحراء المغربية”، أن هذه المظاهر ليست تطورا طبيعيا للتقاليد، بل انزلاقا نحو نموذج استهلاكي دخيل، ينقل الضغوط الحضرية إلى وسط قبلي، لطالما كان يمتاز بالبساطة والتضامن. ويعتبر أن “التباهي الاحتفالي” صار أداة قهر خفي للأسر الفقيرة.

في إحدى مقالات الدكتورة نزهة الحسن حول الأسرة والتحول القيمي، توضح كيف تساهم هذه السلوكيات في تكريس ثقافة الإقصاء داخل المجتمع الصحراوي، حيث يتعرض من لا يستطيع مجاراة مظاهر البذخ في الأعراس أو المناسبات لنوع من التحقير الرمزي، فتغذى بذلك مشاعر الحقد بدل روح القبيلة الجامعة.

مراكز الدراسات الاجتماعية المحلية، مثل المركز الجهوي للدراسات الصحراوية بكلميم، حذرت من أن هذه النزعة الاستعراضية أصبحت تقوض التماسك الاجتماعي، وتدفع الشباب إلى الدخول في دوامة “التمويل بأي ثمن” من أجل تنظيم مناسبات بمواصفات فوق طاقتهم. وهنا يكمن الخطر الحقيقي، حيث يتحول الفرح إلى عبء اقتصادي وأسري.

إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد إسراف مالي، بل إسراف قيمي. فحين تتحول المناسبات من فرصة لتقوية الروابط إلى لحظة للتمظهر الطبقي، نكون أمام خلل عميق في مفهوم الفرح نفسه. وهو ما يستدعي، لا إدانة الأفراد، بل مساءلة الأعراف التي تصنع هذا الضغط الجماعي وتشرع له.

التغيير لا يبدأ بالقوانين، بل بالوعي الجماعي. على المثقفين، والنخب المحلية، وشيوخ القبائل، أن يعيدوا توجيه البوصلة نحو الاعتدال والكرامة في الاحتفاء، بعيدا عن وهم الفخامة الزائفة. الفرح لا يقاس بعدد الأطباق أو ألوان الخيمة، بل بصدق النية وحضور القلوب.

وفي الختام، إن مسؤولية تصحيح المسار لا تقع على فرد واحد، بل على الجميع: الأسرة، المثقف، الإعلام المحلي، وحتى الحضور الذين يصفقون أحيانا لمظاهر لا تشرف الواقع الصحراوي المتسامح. لنعد للمناسبات معناها، وللفرح حقيقته.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة