نون بوست – متابعة
لم يكن التميز يوما حكرا على الحواضر دون غيرها من قرى الهامش، كما لم يكن التمدرس شرطا ضروريا أمام الإبداع، شأنه شأن الفقر الذي لم يسبق له أن وقف حاجزا أمام بلوغ المرء حلما سطره وتسلح لبلوغه بطموح وعزيمة وإصرار.
هكذا خاضت نساء قرويات بجماعة بوطروش النائية نضالا من نوع آخر، نجحن من خلاله في التعريف بمنطقتهن بشكل كبير، بل وتجاوزن ذلك إلى رفع راية المغرب عاليا في كبريات الملتقيات الوطنية والدولية، في قصة كفاح نسجتها أنامل قروية مبدعة تطمح إلى تحسين ظروف عيشها على لوحة فنية اختير لها اسم “زربية بوطروش”.
سنة 2012، وتحديدا في وقت عرف تفريخ عشرات المنظمات والحركات والجمعيات الحقوقية النسائية بالمغرب، التي تختلف أهدافها من هيئة إلى أخرى وفق الجهات الداعمة لها، تأسست التعاونية الحرفية بوطروش، في خطوة رفعت عبرها المرأة البوطروشية سقف التحدي عاليا بعصامية ونكران ذات، مكناها من إثبات مكانتها بعيدا عن نظم البيانات وتجسيد الوقفات.
الإبداع والجودة والإتقان واعتماد المواد الطبيعية، وإحياء التراث المحلي الأصيل، مميزات من بين أخرى جعلت من زربية بوطروش منتجا مطلوبا في السوق المحلية والوطنية والدولية، متحديا تموقع المنطقة في جبال امجاض على بعد حوالي 80 كيلومترا جنوب شرق مدينة تزنيت، بالنفوذ الترابي لإقليم سيدي إفني، ليصل إلى فرنسا والدنمارك وغيرها من الدول الأوروبية.
وإلى جانب كون اعتمادها مواد صباغة طبيعية مستخرجة من الرمان والحناء وازري، وغيرها من النباتات المحلية، من بين أسرار الإقبال الأوروبي عليها، فإن زربية بوطروش وباقي المعدات والإكسسوارات المصاحبة لها تتميز باحتفائها الدائم بفن النقوش الصخرية المتواجد بالمنطقة منذ آلاف السنين، ما مكنها من التفرد عن بقية أنواع الزرابي، والحصول على شهادة الجودة، فضلا عن نيل شرف استدعائها كتعاونية وحيدة بجهة كلميم وادنون للمشاركة في فعاليات “كوب 22”.
كما حازت زربية بوطروش العديد من الشواهد والجوائز، من أهمها الشارة الوطنية للصناعة التقليدية سنة 2017، إضافة إلى جائزة الأمم المتحدة بمراكش حول الأصباغ الطبيعية التي تستعملها التعاونية في حياكة الزربية، ليبقى آخر إنجاز هو اقتراب موعد تصنيفها كتراث وطني، في خطوة تشرف عليها منذ 2016 منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، بتعاون مع وزارة الثقافة والاتصال، وكتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي.
منتج طبيعي خالص
عبد الله الراخي، المدير الإداري للتعاونية الحرفية بوطروش، قال في تصريح لهسبريس إن اعتماد المواد الطبيعية الخالصة، سواء في الصباغة أو الأصواف، من بين ما يميز زربية بوطروش عن غيرها، مشيرا إلى أن استثمار هذا المعطى ساهم بشكل كبير في كسب ثقة زبائن مغاربة وأجانب من فرنسا والدنمارك ودول أخرى.
كما أوضح الراخي أنه “إلى جانب التسويق الإلكتروني المعتمد قبل وخلال فترة الجائحة فإن التعاونية حظيت مرات عديدة بزيارة وفود أوروبية وأخرى محلية، على رأسها ممثلو وزارة الصناعة التقليدية، وجميعهم أعجبوا بمنتجنا، ودعوا إلى تثمينه عبر ربطه بالموروث الثقافي والسياحي الذي تزخر به بالمنطقة، والمتمثل أساسا في النقوش الصخرية؛ فضلا عن تموقع بوطروش على الطريق الرابطة بين تافراوت وأمتضي، وهو ما سيساهم بشكل كبير في خلق رواج ثلاثي يجمع بين الثقافة والسياحة والاقتصاد”.
“من أجل ذلك قمنا بعدة مبادرات نروم من خلالها إحداث مقر متعدد الاختصاصات، يضم مخيما سياحيا وفضاء ثقافيا وآخر للتسويق، ما سيساعدنا بشكل كبير على تجاوز عدة إكراهات، خصوصا في الجانب المتعلق بإيواء السياح الوافدين على المنطقة، سواء لزيارة التعاونية أو الصخور المنقوشة. ولهذا نلتمس من مختلف الجهات المسؤولة دعمنا لترجمة المشروع على أرض الواقع”، يضيف المسؤول التعاوني ذاته.
وعي واستقلالية المرأة
أشار الراخي إلى أن “المتعاونات يشتغلن حاليا في مركز لدار التراث الثقافي، في انتظار استكمال الإجراءات الإدارية لدار الصانعة بوطروش، التي شيدت مؤخرا بشراكة بين عدة مؤسسات”، وزاد: “موازاة مع ذلك تستمر عملية التكوين بالتدرج لفائدتهن ضمانا لتلقين فن حياكة الزربية المحلية لعدد أكبر من الحرفيات، وبالتالي حمايته من الاندثار، سواء في الجانب المتعلق بالمهارات اليدوية أو المعارف التقليدية التي تشكل جزءا مهما من التراث المحلي”.
“إن زربية بوطروش التي أضحت حرفة لفئة عريضة من نساء المنطقة، في إطار العمل التعاوني، مكنت الحرفيات من تحسين ظروف عيشهن، وضمان استقرار مادي ساعدهن على تكوين وعي في أوساطهن، وهو ما شكل فرقا واضحا لدى المرأة القروية بالمنطقة بين الأمس واليوم”، يضيف المتحدث ذاته.
كما ذكر عبد الله الراخي أن “المرأة بجماعة بوطروش أضحت واعية بالدور المنوط بها في مجال تطوير الزربية المحلية، والحفاظ على ريادتها وجودتها وأصالتها وشروط حياكتها، باعتبارها أسسا كفيلة بالانفتاح على أسواق أخرى، وبالتالي الرفع من مستوى التسويق الذي سيوازيه إنتاج جيد وربح أكبر”.
إشعاع سياحي للمنطقة
في تصريح لهسبريس، قال الراجي العلوي سيدي أحمد، المندوب الجهوي للسياحة بجهة كلميم، إنه “من المعروف أن جهة كلميم واد نون تمتاز بمؤهلات طبيعية جد مهمة، إذ يمتزج فيها المجال البحري بالصحراوي الواحاتي والجبلي”، مستحضرا النقوش الصخرية التي تمتاز بها منطقة بوطروش، واحتفاء الزربية البوطروشية بها في منتجاتها، وما قد يكون للخطوة من دور مهم في التسويق السياحي.
“لأن جهة كلميم وادنون بمثابة البرزخ الذي تلتقي فيه روافد الثقافة الصحراوية بالثقافة الأمازيغية، فإن الموروث اللامادي يعتبر أحد ركائز وقوة المنطقة؛ ذلك أن المجال الوادنوني يمتاز بخصوبة المنتجات ذات الصبغة المحلية المرتبطة بعراقة الإنسان وأصالته”، يورد الراجي العلوي.
كما أوضح المسؤول الجهوي ذاته أن “زربية بوطروش تعتبر من المنتجات التي تزخرف هذا الكوكتيل الإنتاجي، ولا شك أن ما تمتاز به من زخارف وإتقان يلعب دورا جد مهم في التسويق السياحي للمنطقة، وتثمينها لبنة جد فعالة في الرفع من إدماج العنصر البشري في السيرورة والدينامية الاقتصادية، وخلق إشعاع للمنطقة جهويا وطنيا ودوليا”.
تشريف للمرأة المغربية
بوبكر أونغير، رئيس العصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان، المعروفة بمواكبتها للمرأة القروية في كافة المجالات، قال إن “تصنيف زربية بوطروش كتراث وطني مسألة إيجابية تترجم العمل الجاد الذي تقوم به التعاونيات في المناطق الجنوبية، وتكريم وتشريف للنساء المشتغلات في التعاونية الحرفية بوطروش، والعمل التعاوني بشكل عام؛ كما يبين أن المرأة المغربية قادرة على بذل مجهودات جبارة قصد تحسين وضعيتها المعيشية، ومعه إعطاء صورة جيدة للمنتج الوطني في الداخل والخارج”.
وأورد أونغير، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “نحن في العصبة نثمن هذه الخطوة التي نعتبرها إيجابية، كما نرى أن دعم النساء القرويات وتمكينهن الاقتصادي ومواكبتهن في مشاريعن مسألة ضرورية وخطوة أساسية، لأن دعم المرأة القروية هو دعم لتمدرس الفتاة ومحاربة للهدر المدرسي وإعادة لتوازن الأسرة المغربية في البوادي؛ وذلك اعتبارا للدور الكبير الذي تقوم المرأة في تربية الأبناء وتعليمهم”.
ودعا رئيس العصبة الأمازيغية الجهات المختصة إلى “ضرورة إعطاء أهمية كبرى لتعاونية بوطروش وغيرها من التعاونيات النشيطة، عبر دعمها على كافة المستويات، سواء عبر بناء المقرات أو شراء الآليات والمواكبة على مستوى التكوين الإداري والمالي والمحاسباتي، وأيضا عبر فتح الأسواق الوطنية والدولية أمام المنتج التعاوني، وعلى رأسه الزربية وغيرها من المنتجات التراثية والتقليدية؛ إلى جانب تمكين المتعاونات من رحلات داخل وخارج الوطن، قصد تبادل التجارب، فضلا عن إعطائهن أولوية الاستفادة من صناديق الدعم، نظير دورهن المهم، سواء الأسري أو الاقتصادي”.
تجربة تستحق الدعم
“زربية بوطروش هي نموذج للتعاونيات الناجحة على الصعيد الجهوي والوطني، وهي تعاونية رائدة تتميز بمنتج ذي جودة عالية يحتاج إلى الدقة والصبر والأناة، ومن أجل ذلك لا يسعنا إلا أن نثمن هذه المبادرة الاقتصادية الهامة، ونشد على أيدي هؤلاء النساء اللواتي يعملن ويكدن من أجل إنتاج منتج وطني تراثي هام، سيكون له وقع أكبر مستقبلا في السوق المحلية والدولية”، يضيف أونغير.
ولكي تسير التعاونية على نهج التميز أكد أونغير على “ضرورة تنزيل برامج تنموية هامة من طرف الحكومة ومختلف الفاعلين والمتداخلين في القطاع، ضمانا لتمكين المتعاونات في زربية بوطروش من بيئة مناسبة للاشتغال في ظروف جيدة من شأنها الرفع من الإنتاج والانفتاح على أسواق دولية أخرى”.
وشدد المتحدث ذاته على “أهمية مشاركة تجربة هذه التعاونية على الصعيد الوطني، باعتبارها نموذجا للإبداع الناصع المقرون بعصامية ونضال المرأة بالجنوب المغربي، وهي مسألة مهمة تعطي المثل للنساء الأخريات للعمل والكد من أجل تحسين شروط عيشهن من جهة، وتثمين المنتجات المحلية والرقي بها إلى أعلى المستويات”.