ثلاث أحرف تثير الرعب

23 أغسطس 2020
ثلاث أحرف تثير الرعب
كلثومة ابليح

“أنا فالمستعجلات راني مخنوق وخاصني الإنعاش،وش ماكتعرف شي واحد..هد الناس خلاوني مليوح هنا مكين للي يسول فيا”
رسالة تدمي القلب وجعا، أرسلها خالد لأحد أصدقائه يرجوه التدخل العاجل إن كان يعرف أحد المسؤولين لمساعدته في تجاوز محنته الصحية، مشيرا إلى أن لا أحد سأل عن حالته المؤسفة بقسم المستعجلات بالمركز الاستشفائي بورزازات ليومين متتاليين.

رائحة الموت المرعبة تنبعث في كل مكان يقشعر لهولها البدن، ثلاث أحرف تثير الرعب في الأنفس، مخلوق غامض، يخيف الكائنات بكل أنواعها، مخلوق لا يعرفك ليجاملك، يأتيك بإنذار أو بدونه يأتيك أوقاتا دونما إخبار.
ذات صباح كنت في السوق بإحدى البقالات أشتري أغراضا للبيت، كانت بجواري امرأة تتحدث في الهاتف كأنها تطلب العزاء لنفسها وراء انفعالاتها فكلما أفرغت من مكالمة تنتقل لأخرى، انتظرت حتى أنهت محادثاتها، اقتربت فسلمت عليها وسألت إن كانت تود مساعدة ما، فأجهشت بكاءً بعد أن أخبرتني من يساعدني لأعيد والدي، فهمت أن والدها راح ضحية الوباء بإحدى مستشفيات مدن الشمال ولم يلقَ عناية طبية مستعجلة، ماكان لي إلا أن عزيتها وطلب الرحمة لوالدها، خرجت المرأة من البقالة وانطلقت لحال سبيلها وأنا أشيعها بنظراتي الحزينة، ترفع كمّ جلبابها اليمين تمسح دمعا نزل حتف أنفها ثم توارت بين عربات السمك يبتلعها من في السوق غير مكترثة، لم يكن أحدا يعلم أو يشعر من المارة أن هذه المرأة قد توفي والدها للتو واللحظة.
يقال أن تعلم الطريقة التي سينساك فيها الناس بعد موتك، سيجعلك قوي الارتباط بالله وحده، طبعا لن يغير موتك شيئا في موقع محيطك الذي شغلته، لن يختل توزان الأرض، لن تندلع ثورة حزنا على فقدك، لن تغضب الطبيعة لن تجف الأنهار أو تدمع الأشجار، ستتوارى تحت الثرى كريشة طائر عابر تتقاذفه الريح كحبة رمل غابت تحت الأرض.
للموت هالة لا تغادر التفكير تنهش العقل قبل القلب، فهل ستتمنى الموت لتعيش روحك السلام والسكينة؟ هل سيتذكرك أهلك وأصدقاؤك على مدار الزمان، هل سيسعد كل من حولك لموتك كونك كيان مزعج لبعضهم ومؤذٍ لآخر؟
ممتلكاتك من الكتب ستتحرر من بطش وكبرياء خزانتك تنتظر نهايتها في مرآب أو بقالة عطارة أو على قارعة الطريق، كتاباتك التي راكمتها ستتحرر من أصفاد الحاسوب وقيد الإنتظار لتختار من يقرؤها.

التنفس هو الشيء الوحيد الذي نقوم به بشكل لا إرادي، خالد لم يتذكر كيف يقوم به، فالأمر لديه مختلف، لم يستطع التذكر كيف يتنفس، لم يعطه كوفيد 19 فرصة أخيرة لتعلم الشهيق والزفير مجددا، فما كان يقوم به لا إراديا أصبح يتطلب مجهودا كأنه يتسلق جبلا.
يئن في صمت وحرارة جسمه قد تجاوزت الأربعين، يرجو مسؤولا صحيا يهتم لحاله بعد استغاثته لم يسعفه أحد، توسلاته المؤسفة لم ترضخ لأي تدخل طبي، كوفيد 19 لم يعطه فرصة التعبير عن الشعور بالتنفس وطلب الواسطة.

دخل خالد جناحا غريبا محاطا بالبياض لا تشوير به ولا مداخل رئيسية، بل عدة مداخل متشابهة كلما تقدم خطوة يبدأ بتحسس جسده هل هذا واقع أم خيال، دخل فجأة في نوبة سعال حاد، نُقل على إثرها إلى غرفة الإنعاش وأصوات الممرضين متشنجة وحركاتهم لا تسكن بين هنا وهناك، انتظار يومين كفيل لأن تعيده إلى سكّة الحياة، خالد راح ضحية رداءة الخدمة الصحية قبل أن تترصد به كورونا، خالد وممن مروا بمحنته جاءتهم المنية دون واسطة تحت ذريعة الإهمال.
وخزات كهربائية كلسعات النحل على صدره، أحس إثرها بالإنتعاش وغدا بصره شاخصا وابتسامة وجهه وردية، أخذ يركض فرحا لم يحس مثيله أبدا في الممر الأبيض في اتجاه امرأة تتلحف بياضا ناصعا بآخر ردهة الممر، شيئا فشيئا أخذ يقترب حتى كشف له وجه والدته، سرّ جدا بلقاء والدته، بعد فراق دام أكثر من عشر سنوات أحس بفرح عارم حين عانق والدته، شبك يده بيدها فتوارا معا عن الأنظار معا لآخر الردهة.
خالد لم ينقل لجناح علاج الوباء الرئيسية كان يحتاج فقط لأكسجين يعيده سليما نشيطا لعمله، لحفيدته مهجة روحه “سعدى” لأبنائه، لزوجه، قاوم لأجل هؤلاء فخارت قواه أمام عملية الشهيق إلى أن تأزمت وضعيته في غياب تدخل صحي.
أصبح كبح انتشار فيروس كورونا صعبا، بل وأكثر حذرا من التعامل معه، إذ لا يزال يفتك بالعشرات في بلدنا وعلى مستوى العالم، عدد الإصابات وعدد الوفيات في تزايد، أصبح كل منا يستطيع أن يشم الموت ولا أحد يعلم متى تنتهي الكارثة المحدقة بكل العالم.
لا تعتنق منطق القوة لأنه وهم أزلي، يطفو على السطح في ظروف المرض أو الموت تفقدك فرصة الوداع الأخير.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.